قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم

http://albder.com/d/moh.pdf




للتحميل ملف zip
https://onedrive.live.com/redir?resid=B1058BB2B65B704A%219651

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
الكاتب : دكتور عثمان قدري مكانسي
المصدر : صيد الفوائد    saaid.net
اعداد : بدر رمضان الحوسني  albder.com

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 



القصة الأولى :
إنك تنظر أحياناً إلى الحيوان في حدائقه التي أنشأها الإنسان له لتتمتع وتتعرف عليه عن كثب فتجد بعضه ينظر إليك بعينين فيهما تعبيرات كثيرة عن أحاسيس يشعر بها ، فتتجاوب معه ، ويتقدم إليك بغريزته ، ويُصدر بعض الحركات ، فيها معان تكاد تنطق مترجمة ما بنفسه ... هذا في الأحوال العادية ... فكيف إذا كانت معجزات أرادها الله سبحانه وتعالى تهز قلوب الناس وعقولهم وأحاسيسهم ؟
ألم يسمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصا في يده الشريفة ؟ ألم يسمعوا أنين جذع الشجرة ، ويرَوا ميله إليه عليه الصلاة والسلام حين أنشأ المسلمون له منبراً يخطب عليه ؟
وقد كان يستند إلى الجذع وهو يخطب فعاد إليه ، ومسح عليه ، وقال له : ألا ترضى أن تكون من أشجار الجنة ؟ فسكت ..
إذا كان الجماد والطير صافات تسبح وتتكلم ، ولكن لا نفقه تسبيحها أفليس الأقرب إلى المعقول أن يتكلم الحيوان ؟...
اشتكى بعير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلمَ صاحبه إياه ، وكلّم الهدهدُ سليمانَ عليه السلام ، وسمع صوت النملة تحذّر جنسها من جيش سليمان العظيم أن يَحْطِمها ، والله سبحانه وتعالى – أولاً وأخيراً- قادر على كل شيء ، والرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبرنا ، ويحدثنا .
في صباح أحد الأيام بعد صلاة الفجر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ، ولم يكن فيهم صاحباه العظيمان – الصديقُ أبو بكر والفاروق عمر – رضي الله عنهما ، فلعلهما كانا في سريّة أو تجارة ... فقال :
بينما راع يرعى أغنامه ، ويحوطها برعايته إذْ بذئب يعدو على شاة ، فيمسكها من رقبتها ، ويسوقها أمامه مسرعاً ، فالضعيف من الحيوان طعام القويّ منها – سنة الله في مسير هذه الحياة – وتسرع الشاة إلى حتفها معه دون وعي أو إدراك ، فقد دفعها الخوف والاستسلام إلى متابعته ، وهي لا تدري ما تفعل . ويلحق الراعي بهما – وكان جَلْداً قويّاً – يحمل هراوته يطارد ذلك المعتدي مصمماً على استخلاصها منه ... ويصل إليهما ، يكاد يقصم ظهر الذئب . إلا أن الذئب الذي لم يسعفه الحظ بالابتعاد بفريسته عن سلطان الراعي ، وخاف أن ينقلب صيداً له ترك الشاة وانطلق مبتعداً مقهوراً ، ثم أقعى ونظر إلى الراعي فقال :
ها أنت قد استنقذتها مني ، وسلبتني إياها ، فمن لها يومَ السبُع؟ !! يومَ السبُع ؟!! وما أدراك ما يومُ السبُع ِ؟!! إنه يوم في علم الغيب ، في مستقبل الزمان حيث تقع الفتن ، ويترك الناس أنعامهم ومواشيهم ، يهتمون بأنفسهم ليوم جلل ، ويهملونها ، فتعيث السباع فيها فساداً ، لا يمنعها منها أحد . .. ويكثر الهرج والمرج ، ويستحر القتل في البشر ، وهذا من علائم الساعة .
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذه القصة ، ومِن حديث الذئب عن أحداث تقع في آخر الزمان ، ومن فصاحته ، هذا العجب بعيد عن التكذيب ، وحاشاهم أن يُكذّبوا رسولهم !! فهو الصادق المصدوق ، لكنهم فوجئوا بما لم يتوقعوا ، فكان هذا الاستفهام والتعجّبُ وليدَ المفاجأة لأمر غير متوقّع :
إنك يا سيدنا وحبيبنا صادق فيما تخبرنا ، إلا أن الخبر ألجم أفكارنا ، وبهتَنا فكان منا العجب .
فيؤكد رسولً الله صلى الله عليه وسلم حديثَ الذئب قائلاً :
أنا أومن بهذا ... هذا أمر عاديّ ،فالإنسانُ حين يسوق خبراً فقد تأكد منه ، أما حين يكون نبياَ فإن دائرة التصديق تتسع لتشمل المصدر الذي استقى منه الرسول الكريمُ هذه القصة ، إنه الله أصدق القائلين سبحانه جلّ شأنُه .
ويا لجَدَّ الصديق والفاروق ، ويا لَعظمة مكانتهما عند الله ورسوله ، إن الإنسان حين يحتاج إلى من يؤيدُه في دعواه يستشهد بمن حضر الموقعة ، ويعضّد صدقَ خبره بتأييده ومساندته وهو حاضر معه . لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بعِظَم يقين الرجلين العظيمين ، وشدّة تصديق الوزيرين الجليلين أبي بكر وعمر له يُجملهما معه في الإيمان بما يقول ، ولِمَ لا فقد كشف الله لهما الحُجُبَ ، فعمَر الإيمانُ قلبيهما وجوانحهما ، فهما يعيشان في ضياء الحق ونور الإيمان . فكانا نعم الصاحبان ، ونعم الأخوان ، ونعم الصديقان لحبيبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريان ما يرى ، ويؤمنان بما يقول عن علم ويقين ، لا عن تقليد واتباع سلبيّ.
فأبو بكر خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صدّقه حين كذّبه الناسُ ، وواساه بنفسه وماله ، ويدخل الجنة من أي أبوابها شاء دون حساب ، وفضلُه لا يدانيه فضلٌ .
والفاروق وزيره الثاني ، ولو كان بعد الرسول صلى الله عليه وسلم نبيٌّ لكان عمر . أعزّ اللهُ بإسلامه دينه ، ولا يسلك فجاً إلا سلك الشيطان فجّاً غيره .
كانا ملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام يقول :
ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر .
فطوبى لكما يا سيّديّ ثقةَ رسول الله بكما ، وحبَّه لكما ، حشرنا الله معكما تحت لواء سيد المرسلين وخاتم النبيين .
وأتـْبَعَ الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم قصةَ الراعي والذئب بقصة البقرة وصاحبها ، فقال :
وبينما رجل يسوق بقرة – والبقر للحَلْب والحرْث وخدمة الزرع – امتطى ظهرها كما يفعل بالخيل والبغال والحمير ، فتباطأَتْ في سيرها ، فضربها ، فالتفتَتْ إليه ، فكلّمَتْه ، فقالت: إني لم أُخلقْ للركوب ، إنما خلقني الله للحرث ، ولا يجوز لك أن تستعملني فيما لم أُخلقْ له .
تعجّب الرجل من بيانها وقوّة حجتها ، ونزل عن ظهرها ...
وتعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: سبحان الله ، بقرةٌ تتكلم ؟!
قالوا هذا ولمّا تزل المفاجأة الأولى في نفوسهم ، لم يتخلّصوا منها ... فأكد القصة َ رسول ُ الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن أنه يؤمن بما يوحى إليه ، وأن الصدّيق والفاروقَ كليهما – الغائبَين جسماً الحاضرَين روحاً وقلباً وفكراً يؤمنان بذلك .
رضي الله عنكما أيها الطودان الشامخان ، وهنيئاً لكما حبّ ُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكما وحبُّكما إياه .
اللهمّ إننا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ، فارزقنا صحبة رسول الله وأبي بكر وعمر ، يا رب العالمين ....
البخاري مجلد – 2
جزء – 4
كتاب بدء الخلق ، باب فضائل الصديق وعمر
 




















 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثانية 
 

- قال الأب : سمعتك يا بني أمسِ تقول لوالدتك : أنا خير من سعيد ، حفظ الآيات المطلوب حفظها في ثلاثة أيام ، وحفظتها في يوم واحد ، فأنا أكثر ذكاءٍ منه .
- قال الولد : نعم يا أبي ، لقد قلت هذا .. فهل تراني أخطات ، ولم أتعدّ الحقيقة ؟
- قال الأب : وقلتَ مرة : إن والدك مدرّس قدير ، ينظر الناس إليه باحترام وتقدير ، أما خالد فوالده عامل في متجر جدك ... أليس كذلك ؟.
- قال الولد : بلى ، لا أنكر ذلك ..فهل من مأخذ عليّ ؟.
- قال الأب : إن قلتَ هذا من قبيل الفخر بنفسك ، والتعالي على الآخرين قاصداً الحطّ من الناس والترفـّع عليهم فقد أقحمتَ نفسَك في النار – لا سمح الله - دون أن تدري ، فإنّ أحدنا يتلفّظ بالكلمة لا يلقي لها بالاً تقذفه في جهنّم سبعين خريفاً .
- قال الولد : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، وأستغفر الله أن أقول ما يغضبه .
- قال الأب : إنّ الإعجاب بالنفس والأهل وكثرة المال وجمال الثياب وبهاء المظهر ، والتفاخر بكثرة العبادة يهلك الإنسان .. والعُجْب يا بنيّ محبط للأعمال ، مبعد عن الجنّة ونعيمها ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبْر ..." ووضح معنى الكبر فقال : " الكبْر بطر الحق ، وغمط الناس " والغمط الاحتقار والازدراء . وقال عليه الصلاة والسلام " ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عُتـُلٍ جوّاظ مستكبر " (والعتل : الفظ الغليظ ، والجواظ : الجَموعُ المنوعُ : وقيل المختال في مشيته .) وكان الأولى بك - يا بنيّ – أن تحمد الله أنْ يسّر لك حفظ الآيات القرآنية ، وأن تشكره بالتواضع ... فإن كان أبوك في نظرك ونظر الناس خيراً من غيره فقد يكون في ميزان الله – نسأل الله العافية – أقلَّ بكثير ممن رأيته خيراً منهم .. وقد مدح قومٌ الصدّيقَ رضي الله عنه فقال قولتَه المشهورة : " اللهم اجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون " .
- قال الولد : جزاك الله خيراً يا والدي ومعلّمي ، والله ما كان يخطر ببالي أنني أُغضب الحقّ تبارك وتعالى ، وأعاهدك أنْ لا أعود إلى ذلك أبداً .
- قال الأب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصّ على الصحابة الكرام عاقبةَ مَن يُعجب بنفسه ، فيوردها موارد الهلاك ... وسأذكر لك ثلاثاً منها ، عساها تكون إشاراتٍ حمراء تمنع صاحبها أن يقع في شرّ ما يفكر به ويعمله .
أما القصة الأولى : 
فقصة رجل رأى نفسه فوق الآخرين مالاً وجمالاً وحلّةً ... مشى بين أقرانه مختالاً بثوبه النفيس ، وشبابه الدافق حيويّة ، وجيبه المليء المنتفخ مالاً ، تفوح نرجسيّتُه وحبُّ ذاته في الطريقة التي يمشيها ، فهو يمدّ صدره للأمام ، ويفتح ما بين إبطيه ، لا يكاد الطريق يسعُه ، يميل بوجهه إلى اليمين مرّة ، وإلى اليسار أُخرى متعجّباً من جِدّة ثوبه ، وغلاء ثمنه ، يجر رداءَه خيَلاءَ ، يظن نفسه خيرَ مَن وطِئ الثرى ، يكادُ لا يلمس الأرض من خفّته ، يحسب أن العَظَمة إنما تكون بالمادّة والمظهر ، ونسي أنها لا تكون إلا بحسن الأخلاق ونفاسة المخبَر ، وغفَل عن قوله تعالى : " ولا تمْشِ في الأرض مَرَحاً ، إنك لن تخرِق الأرضَ ولن تبلُغ الجبالَ طولاً " وتناسى أنه مخلوق ضعيف ، أصلُه من طين ، ومن سُلالة من ماء مَهين . تناسى أنّ أوّله نطفة مَذِرَةٌ ، وآخرَه جيفةٌ قذرةٌ ، وهو بينهما يحمل العَذَرةَ ... وتناسى أنّه حين صعّر خدّه للناس غضب الله عليه ، لأنه شارك الله في صفتين لا يرضاهما لغيره ، حين قال تعالى " العَظَمةُ إزاري ، والكبرياءُ ردائي ، فمن نازعني فيهما قصمت ظهره ولا أُبالي " بل تناسى كذلك أنه سيصير إلى قبره ، حيث يأكله الدود في دار الوَحشة والطُّلمة ، لا أنيس فيها سوى التقوى والتواضع . وغفَل أيضاً عن مصير الجبّارين المتغطرسين قبله . وقصّة قارون الذي خسف الله تعالى به الأرض قرآن يُتلى .
وقد أخبرنا الرسول الكريم أن هذا الرجل المتكبر خسف الله به الأرض ، فهو يغوصُ في مجاهلها من شِقٍّ إلى شقّ ، ومن مَهوىً ضيّق غلى حفرة أعمقَ منها ، ينزل فيها مضطرباً مندفعاً ، تصدُر عن حركته أصواتٌ متتابعةٌ إلى يوم القيامة جزاءَ تعاظمه وتكبّره ... ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام " إنّ الله أوحى إليّ أنْ تَواضعوا ، حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ . "
الحديث في صحيح البخاري
مجلد 4 جـ 7 باب من جر ثوبه خيلاء
وأما القصة الثانية :
فقد ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن رجلين من بني إسرائيل كانا متآخيين إلا أنهما يختلفان في العبادة ، فالأول مجتهد فيها ، يصلُ قيام الليل بصيام النهار ، لا يألو في الاستزادة منها .. يرى صاحبه مقصّراً ، بل مذنباً مصرّاً على المعاصي ، فيأمره بالعبادة ، وينهاه عن المعصية ، ولربّما وجده يوماً يشرب الخمر أو يرتكب معصية ، فنهاه عنها ، وهذا أمر يتصف به المسلم ، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وهكذا الدعاة دائماً " كنتم خير أمة أُخرجتْ للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ... " .. " ولْتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويامرون بالمعروف ، وينهَوْنَ عن المنكر " إلا أن الإنسان حين يتجاوز حدّه ويتألّى على الله فقد أساء إلى الذات الإلهيّة ، ووقع في غضب الله دون أن يدري ، فكانت عاقبته خسراً .
إن العاصي حين أمره العابد أن يفعل الخير ، ونهاه عن المنكر قال له : " خَلّني وربي .. أبُعِثْتَ عليّ رقيباً ؟! " ... هنا نلحظ أمرين اثنين :
1- فقد كان المذنب مصراً على الذنب ، عاكفاً عليه ، متبرّماً من متابعة العابد له بالنصح والمتابعة .
2- وكان أسلوب العابد في النصح فظاً غليظاً أدّى إلى تحدّي العاصي له . والداعية الناجحُ هيّن ليّن ، رفيق بالمذنبين ، يعاملهم معاملة الطبيب الحاني مرضاه ، فيمسح عنهم تعبهم ، ويخفف عنهم آلامهم ، فيدخل إلى قلوبهم ، وينتزع منهم أوصابهم .....
احتدّ العابد من إصرار العاصي على ذنبه ، فاندفع يُقسم : أنّ الله لن يغفر له ، ولن يرحمه ، ولن يُدخله الجنّةَ .... فيقبض الله روحيهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، ،، ويا خسارة من يغضب الله عليه ، إن العابد نزع عن الله صفة الرحمة ، وصفة الغفران ، حين أقسم أن الله لن يغفر للعاصي ...
قال الله لهذا المجتهد : أكنتَ بي عالماً ؟ أو كنت على ما في يدي قادراً ؟ لأُخيّبَنّ ظنّك ، فأنا أفعل ما أشاء ... وقال للمذنب اذهب فادخل الجنّة برحمتي ... إن الناس جميعاً ، صالحَهم وطالحَهم ، عابدهم وعاصيهم ، لن يوفـّوا الله نعمه ، وحين يدخلون الجنّة يدخلونها برحمته . .. قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : حتى أنت يا رسول الله ؟ قال : " حتى أنا إلاّ أن يتغمدَنيَ اللهُ برحمته "
وقال الله تعالى للآخر(للعابد) المتألّي على الله : اذهبوا به إلى النار ... لقد لفظ كلمة أهلكته فدخل النار ولم تنفعه عبادته .
رياض الصالحين باب تحقير المسلمين الحديث/ 1210 /
وأما القصة الثالثة :
فهي رديف المعنى في القصة الثانية ، إذ افتخر رجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ، فقال : أنا ابن فلان ، فمن أنت؟ لا أمّ لك . فردّه المعلّم الأول صلى الله عليه وسلّم إلى الصواب بطريقة غير مباشرة ، إذ روى الحبيب المصطفى قصة مشابهة لقصتهما حدثت أما النبي موسى عليه السلام بين رجلين . فقد فَخَر الرجل الأول بآبائه فقال : أنا ابن فلان بن فلان .. حتى عدّ تسعة آباء ، لهم بين يدَيِ الناس في حياتهم المكانةُ الساميةُ غنىً ونسباً ومكانةً .. فمن أنت حتى تطاولني وتكون لي نَدّاً ؟! .
لو انتبه إلى مصير أبائه وأجداده لم يفخر بهم ، إنهم كانوا كفـّاراً يعبدون الأصنام ويتخذونها آلهة. والله تعالى يقول لأمثال هؤلاء: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصَبُ جهنّم ، أنتم لها واردون " .. لم يدخل الإيمان قلبَه فدعا بدعوى الجاهلية ، وفضّل أهلَ النار – ولو كانوا أجدادَه – على أخيه المسلم ، فكان مصيرُه مصيرَهم إذ أوحى الله إلى نبيّه موسى أن يقول له : أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم ،لأن المرء يُحشر مع من أحبّ . وقال الثاني : أنا فلان بن فلان بن الإسلام .. فخر بأبيه الذي رباه على الإسلام ، وقطع نسبه قبل أبيه ، فلم يفخر بجده الكافر ، ولم يعترف به ، فلا جامع يجمعه به .
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
هل يلتقي الكفر بالإيمان والظلام بالضياء في قلب واحد؟! شتّان شتّان ، فلن يعلوَ الإنسانُ بنسبه ، ويوم القيامة لا ينفعه سوى عمله " فإذا نُفخ في الصور فلا أنسابَ بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون " وقال تعالى كذلك " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وهل ينفع نوحٌ ابنَه ؟ وإبراهيمُ أباهُ ، ورسولُ الله عمَّه أبا لهب ؟ ..
فأوحى الله إلى نبيّه موسى أن يهنئه بالفوز والنجاح حين قال : أما أنت أيها المنتسب إلى والدك المسلم ودينك العظيم فأنت من أهل الجنّة . تعصّبتَ إلى دينك ، وتشرفتَ بالانتساب إليه فأنت منه ، وهو منك .
مسند الإمام أحمد جزء 5 ص 128
 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثالثة
تلك إذاً قسمة " صحيحة "
 

دخلت حسناء البيت مسرعة ، فوجدت أمها ترتب الطعام على المائدة ، فبعد قليل يأتي والدها من العمل متعباً ، فيأكل ثم يصلي ليرتاح قليلاً قبل زيارة الجدة ، فشرعت في مساعدة أمها ، وأخبرتها أن معلمتها ذكرت لها قصة الحلاّبة وابنتها، فأعجبت بالبنت ونزاهتها وحسن إيمانها ، ورغبت أن تكون مثلها في التزامها آداب هذا الدين العظيم والتمسّك بأهدابه .... ولم تنتظر أن تطلب أمها أن تقص عليها قصتها ، فبدأت تقول :
إن الفاروق عمر رضي الله عنه خليفة المسلمين انطلق وخادمُه يعُسّ طرقات المدينة ، ويتفقد أمور المسلمين ، فسمع امرأة تقول لابنتها : يا بنيّة امزقي ( اخلطي وامزجي )اللبن بالماء – كي يكثر فيزداد الربح- فقالت البنت لأمها : أم تعلمي أن أمير المؤمنين حذرنا من الغش، ومنع مزج الحليب بالماء ؟! قالت لها أمها : وأين منا أمير المؤمنين ؟ ... ردت البنت قائلة : إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فربه سبحانه يرانا !...
أُعجب الفاروق بدين الفتاة وكريم خُلُقها ، وأمر صاحبه أن يضع علامة على البيت ، وقال له : ايتني بخبر أهل الدار ...
وفي الصباح قال خادمه : إنها امرأة تبيع الحليب وابنتها . فسأل الخليفة ابنه عاصماً : هل لك في زوجة صالحة ؟ قال : نعم . فزوجه منها . فكانت هذه الزوجة الصالحةُ جدةََ الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز.
فرحت الأم بابنتها ، وقبّلتها ، وقالت: إنّ السُّحت يا ابنتي لا بركة فيه ، ويُردي صاحبه في النار ، والحلال يرفع شأن صاحبه في الدنيا ، ويهديه إلى الجنة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى لأصحابه قصة مشابهة لما رويتِ ، سأقصها عليك الآن ونحن نرتب الطعام على المائدة قبل أن يصل والدك .
تعلمين يا حسناء أن الخمر لم يكن محرّماً في أول الإسلام ، ثم بدأت الدائرة تضيق على تناوله حتى حرّمه الله تعالى في قوله سبحانه " يا أيها الذين آمنوا ، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟ " قالوا : انتهينا ، يا رب ، انتهينا .
ولعله كان في الأمم السابقة غير محرّم كذلك .
فقد انطلق رجل بسفينته في النهر ، يقف على هذه القرية وتلك القرية ، وهذا الحي وذاك ، يبيع الخمر للناس . وكان غشّاشاً ، يخلط الخمر بالماء ليزداد بيعه ، فيزداد ربحه . وكثير من الناس في أيامنا هذه يفعل مثله ظنّاً منهم – وهذا قلة في الدين ، وضعف في اليقين – أنهم يسرعون في الثراء ، فيَشـُوبون الجيد بالرديء ، او يمزجون المتقاربين في النوع ليجنوا المال الكثير بالطرق غير المشروعة ، فيخسرونه وأضعافه بطرق لا يشعرون بها ، فقد تكون المرضَ ، أو السرقةَ أو الضياعَ أو الإسرافَ أو النكدَ في الحياة الذي يطغى على كثرة المال ، فيفقدُ الإنسانُ الراحة وطعم السعادة .. وهذا كلُّه لا يساوي شيئاً أمام عذاب الله تعالى وغضبه ... فما نبت من سحت فالنار أولى به .
باع الرجل " الخمر المائيّ" ، ووضع الدنانير في كيسه ، وانطلق بسفينته عائداً إلى بيته ، والسعادة تملأ نفسه ، والأمل في جمع ثروة كبيرة يراوده . وبينما هو في أحلامه ، وقردُه إلى جانبه يقفز هنا وهناك اختطف القردُ الكيسَ ، وصعِد به إلى سارية السفينة . فانخلع قلب التاجر لمصير الكيس ، فقد يطيح به القرد في الماء ، فيخسر تجارته وأحلامه الوردية التي خامرَتْه . وقد يفتحه ، فتتساقط بعض الدنانير في الماء ، ويغيب بعضها في ثنايا الألواح ....
أيها القرد ؛ أيها القرد؛ بالله عليك انزل . فلما لم ينزل ناداه : ارم الكيس إليّ بهدوء ، ولا تفجعني في مالي ...
لم يفهم القرد توسّلَه ، بل تمكّن من جلسته أعلى السارية ، وحلَّ رباطَ الكيس ...؛ نظر في داخله ...؛ مدّ يده إلى الدنانير الذهبيّة ، فأخرج ديناراً ، وقلّبَه بيده كأنه يروزه ( يختبره ويتعرّفه) ثم ألقاه أسفل منه ، فسقط في السفينة ، فابتدره التاجر ... ورفع رأسه إلى حيث يجلس القرد ... كان التاجر متوثّباً مشدودَ الأعصاب .. لقد مدّ القرد يدَه إلى الكيس ، وأخرج ديناراً قلّبه بيده ، فاستعدّ التاجر لتلقّيه .. ليس في الأمر حيلة سوى ذلك ، لقد ترك دفّة السفينة ليتفرّغ للالتقاط الدنانير .... يا ويح التاجر ، لقد رمى القرد الدينار في الماء بين الأمواج ، ورمى التاجر رأسه على عمود السارية من الغيظ والقهر .. وعاد ينظر بتوسّل ظاهر إلى القرد ، ولكنْ هذه المرة دون أن يناديه ، إذ انعقد لسانه .. فرمى القرد إليه ديناراً ، فأسرع إلى التقاطه ، ورمى الدينار الرابع إلى الماء ... يا ويحه ، ما عادت رجلاه تحملانه .. سقط على الأرض ، وعيناه متعلقتان بالقرد وصنيعه ...
ازدادت سرعة يد القرد ، واستمر التوزيع العادل في القسمة .. دينارٌ يٌرمى على السفينة ، وآخر يُلقى إلى الماء .... وفرغ الكيس ، ونزل القردُ ... أخذ التاجر نصيبَه من ثمن الخمر ، وأخذ النهر نصيبه من ثمن الماء الممزوج بالخمر ...
أليست القسمة صحيحة ، والقردُ قاضياً عادلاً ، وحكَماً نزيهاً ؟! !
وقد نال التاجر نصيبه من الحزن والألم في الدنيا . وسينال جزاءَه في الآخرة ناراً تلَظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. هذا إذا لم يتق الله تعالى ، ويتـُب ، ويعفُ الكريمُ عنه.
مسند الإمام أحمد ج2ص306
 





 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الرابعة
" الوفاء بالعهد "
 

إني بحاجة إلى ألف دينار عدّاً ونقداً ،كي أدفع ثمن الثياب لذلك التاجر الذي ابتعتها منه ، ولا أستطيع الاعتذار ، فالبائع بعيد على الشاطئ الآخر من البحر ، وهو يعرفني أفي بالعهد ، صادقاً ، لا أكذب الحديث ... إنه ينتظر في بلدته ، والسفينة ستقلع غداً صباحاً ، فماذا أفعل يا رب ، كنت أعتقد أن المال بحوزتي ، فإذا به أقل مما توقعت ، بعت حُلِيَّ زوجتي وبنتيّ ، واستغنيت عن بعض الأساسيات ، وما زال ينقصني ألف دينار ، من أين آتي بها؟ اللهم يسّرْ وأعنْ .. إنني أعرف أن الحاضرين من أهلي وأصدقائي لا يملكون مثل هذا المبلغ ، وسؤالي إياهم يُخجلهم ، ويخجلني ، فما اعتدت أن أسألهم لعلمي بحالهم ، وسيشعرون بالحرج إذا قصدتهم .. ماذا أفعل يا إلهي ؟!! لا بد من تيسير الله تعالى .. اللهم اجعل لي من أمري فرجاً .
آه ، تذكرت... إن عبد الله تاجر كبير في البلدة المجاورة ، يحب الخير ويسعى فيه ، ولعلني إن قصدته لا يخيب فيه أملي ... ولكنّ علاقتنا بسيطة لا تتعدّى السلام والتحية . .. إلا أنه والحق يُقال شهم يلبي ذا الحاجة والمعسر ،وأنا محتاج ومعسر . فلْأذهب إليه ، لا تثريب عليّ إن عدْت من عنده خاليَ الوفاض ، لم أنلْ بغيتي ، إنما عليّ أن أبذل جهدي ، وعلى الله تعالى تدبيرُ الأمور ، وإن نلتُ منه حاجتي ، فقد سهّل الله أمري ... إذاً لا وقت للتردد يا يوسف ، فهيّا إلى ذلك الرجل الفاضل ، علّ الله يجعل التيسير على يديه .
السلام عليكم يا عبد الله ورحمة الله وبركاته .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أهلاً وسهلاً يا أخُ يوسف ، ما هذه المفاجاة الطيبة؟ تزورني أول مرة في داري ؟ أهلاً بك وسهلاً ، مقدَمُ خير وبركة ...
كان استقباله طيباً ، والابتسامة لا تفارق مُحيّاه ، بسط لي من القول وأكرمني غاية الإكرام ، ثم سألني حاجتي ، فزيارتي الأولى له الليلة تنمّ عن حاجة ولهفة في الإسراع إلى قضائها . وصدق حدسُ الرجل ،،، وتلعثمتُ أول الأمر ، فقد كان من المروءة زيارته دون الحاجة إليه ،،، ولا بد من الإفصاح عما في جَعبتي ، فسألته أن يسلفني ألف دينار ....
قال : على الرحب والسَّعة ، إن زيارتك توجب حسن القيام بواجبي ، فضلاً عن كونك تاجراً معروفاً بالصدق والأمانة ، ولو أرسلت رسولك دون تجشم العناء لكنت عند حسن ظنك بي ، ولكن زارتنا البركة بمجيئك .
شكرت له حسن استقباله ، ومروءتَه التي طبّقت الآفاق . ثم قال لي : أنا لا أشك في صدقك وحسن أدائك الأمانة ، لكنّ الله تعالى أمرنا أن نُشهد على معاملاتنا التجارية فقال: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمىً فاكتبوه ..... واستشهدوا شهيدين من رجالكم " وشرْعُ الله أولى أن يُتّبع ، فهو أحفظ للحقوق ، وأدعى إلى الالتزام بها ، يريح النفس ، ويُبقي على الود والمحبة .
قلت : هذا أمر لا أنكره ، وحق لا أماري فيه . ، لكن العجلة وضيقَ الوقت أنسياني ذلك ، وليس في هذه البلدة من يعرفني فيكفلني . والسفينة تنطلق غداً من المرفأ إلى الطرف الآخر ، والزمن يتسارع ، فهل تقبل أن يكون الله تعالى شهيداً بيني وبينك ؟
قال على فوره : كفى بالله شهيداً .
أردفتُ : ألا ترضى أن يكون الله لي كفيلاً ؟.
قال : كفى بالله كفيلاً ....
قلت : فأنا أُشهد الله تعالى أن أرد لك المبلغ في حينه .. ولعل الله تعالى يعرف صدق نيّتي ، فيعينني على أداء فضلك وعونك .
فدفع المال إليّ على أن أرده في الأجل المسمّى الذي ضربتُه ، وانطلقت إلى السفينة التي حملتني إلى الشاطئ الآخر ، ولم تمضِ أيام حتى قضيت حاجتي ، وبعت واشتريتُ ، فرزقني الله تعالى رزقاً طيّباً وفيراً .
وكان لا بد أن أشكر الله على فضله ومَنّه وكرمه ، ولا يكون الشكر إلا برد الحقوق إلى أصحابها ، وشكرهم على معروفهم ، فقديماً قالوا : من لا يشكرِ الناس لا يشكرِ الله .
وقفت على الشاطئ ألتمس مركباً يعود بي إلى الضفة الأخرى ، فلم أجد . وسألت عن طريقة أصل بها إلى الرجل الفاضل الذي أغاثني في الوقت الذي وعدته أنْ أفيَه . فلم أجد . لا بد أن أفعل شيئاً يرضي الله تعالى فهو الشهيد علي ، وهو سبحانه كفيلي .. يا رب يسر أداء ديني واجعلني من المقبولين لديك ، هاأنذا ضاقت بي الحيلة ، وأنت حسبي ، وعوني . ..
إن إخلاص المرء لله وصدقه في التوجه إليه يرضيه سبحانه ، ويُرضي الناس عنه . وأنا راغب في إيفاء الرجل حقه والتزامي بعهدي إياه .. فيا رب أنت الشهيد ، وأنت يارب الكفيل ، توجهت إليك ربِّ ، فاهدني إلى قضاء ديني ، واحفظ عليّ ماء وجهي .
وأراد الله سبحانه أن أفي بعهدي ولا أخفر ذمتي ، فألهمني أن آخذ خشبة كبيرة ، فنقرت فيها جوفاً يتسع لألف دينار وضعتها فيه ، وكتبت رسالة إلى صاحبي أعتذر فيها عن حضوري مع الوديعة ، وأشكره على شهامته ونجدته ، ثم سوّيتُ موضع الحفر وسدَدْتُه بإحكام تام ، وأتيت بها إلى البحر .
لئن يكن في قابل الأيام مصارف منبثة في أرجاء المعمورة تسهل المعاملات التجارية ، أو وسائل اتصال يبدي بها المرء عذره ، إن الحاضر بدائي ليس فيه شيء من هذا .
ولو كان معي رجل يرى ما أفعل لقال : إنني مغفل معتوه . كيف أدفع المال الذهبي – وهو ثقيل – في جوف شجرة كبيرة ، قد تنحرف يميناً أو شمالاً فتعلق في غابة مرجانية ، أو تغوص في دوّامة مائية فتنشقّ، أو تصطدم بصخرة قوية فتتفتّت ، وتتناثر الدنانير في الماء ... وهل تصل إلى صاحبها ؟ هل من المعقول ذلك وآلاف الناس على البحر ، إن أخذها أحدهم لم يدّع الآخرون أنها لهم ، ولماذا يدّعون وهي لا تصلح لشيء ؟!
لكنني أشهدْت اللهَ ، وجعلتُه عليّ كفيلاً ، ورضي الرجل بشهادة الله وكفالته . ويقيني أنه سبحانه سيوصلها إليه . .. يا رب ؛ إنك تعلم ما جرى بيني وبين الرجل ، وإني جهدتُ أن أرى مركباً يوصلني إليه ، أو يوصل إليه الأمانة ، فلم أقدر ، وإني أستودعكها ...
ورميتُ الخشبة في البحر ، حتى غابت فيه ، ثم رحتُ أبحث عن أول مركب يوصلني إلى مدينتنا على الشاطئ الآخر ..
خرج التاجر عبد الله في الوقت المحدد الذي اتفقا عليه ينتظر مركباً يصل يوسف على متنه فيتلقّاه ويهنئه على سلامة الوصول ، ويسترد ألف الدينار ، أو يرى سفينة يحمل ربانُها المال من يوسف ، ولكنه لم يجد أحداً .. ورأى خشبة قذفتها الأمواج إلى البابسة ، لمّا تجف ، فأعجبه حجمها ، فأخذها لأهله حطباً ، فلما نشرها وجد المال والرسالة ... ما أشد فرحته ، وما أعظم سروروه !! كيف تسنّى ليوسف أن يفعل هذا ؟! وكيف تفتّق ذهنه عن هذه الحيلة ؟! لولا صدق إيمانه بالله ما فعل هذا ، ولولا حسن توكله على الله وثقته به ما اطمأنّ إلى ما فعل . فقال : الحمد لله الذي -عرّفني عن تجربة - على صديق وفي وأخ كريم . لأصاحبنّه وليكوننّ أخي ، فالأخ المؤمن سراج يضيء حياة الآخرين بفيض من إيمان ....
ولك - يا رب – الشكر ، فأنت سبحانك نعم الشهيد ونعم الوكيل . لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك .
وقدم يوسف بعد مدة ، فانطلق فوراً إلى عبد الله ، وقدّم له الدنانير الألف معتذراً عن تأخره .
قال عبد الله : هل كنتَ بعثتَ إليّ بشيء ؟
ولعلّ عبد الله كان يظن أن يوسف لم يقدر أن يفي بوعده في الأجل المسمى ، وأن الله تعالى – حين رضي به عبدُ الله شهيداً وكفيلاً – أمر أحد ملائكته ، ففعل ما وجده على الشاطئ .
فهو إن سأل يوسف ، فلم يلقَ جواباً أيقن أن الله قضى عنه ، وإن كان يوسف هو الفاعل ليتمسّكنّ بصحبته إلى الأبد كما قرر سابقاً .
فحدّثه يوسف بما فعل ، فقال عبد الله مطمئِناً إيّاه : فإن الله تعالى قد أدّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة ، فانصرف بأموالك راشداً .

صحيح البخاري مج/2 ج /3
كتاب الإجارة ، باب الكفالة في القرض والديون
 




 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الخامسة : العمل الصالح يُنجي صاحبه -    
قاربت الشمس على المغيب ، وبدأ الظلام يرسل أول خيط له مازج الضوء الباهت الذي آذن بالرحيل ، وبدأت الأنسام الباردة تخترق ثياب هؤلاء النفرالثلاثة الجادّين في السير ، يريدون أن يصلوا إلى أقرب مأوى يقضون فيه ليلتهم هذه ، ثم يتابعون رحلتهم إلى هدفهم .
كانوا بعيدين عن القرى مسافات كبيرة ، قدّروا أنهم لن يستطيعوا الوصولَ إلى أوّلها إلا بعد ساعات من مسير ليليّ غير محمود العواقب ، فقد يقعون في حفرة ، أو يدعمهم سيل جارف ، أو يَفجؤهم مطر منهمر ، أو وحوش كاسرة .... والليل لا عيون له ، والنهار آمَنُ وآنَسُ. فليبحثوا إذاً عن أقرب مكان يلوذون به ...
ولم يطل بهم البحث ، فعلى مدىً يسير منهم ظهرت فجوة ترتفع عما حولها قليلاً ... فجدّوا السير إليها ، وكانت مناسبة لهم ، ما إن دخلوها حتى شعروا بالدفء يسري في أوصالهم ، والهدوءِ يَحوطهم ، والعتَمة تزحف عليهم ، فاستسلموا لنوم لذيذ . وما ألذّ النوم بعد التعب ، والسكونَ بعد الحركة ... وغرقوا في أحلام وردية ، وتخيّلوا أنفسهم في مرابعهم ، وبين أهليهم ، ولم يشعروا بما كان خارج كهفهم من ريح اشتدّت حاملةً السحاب الماطر الذي أغرق المكان حولهم ، وحفر تحت صخرة كبيرة كانت أعلى الكهف ، فتدحرجت بكلكلها ، لتستقر على باب الكهف ، فتوقعَهم في مأزق لا خلاص منه إلا أن يشاء الله .
بدأت الشمس ترسل أشعتها إلى الكهف من خلال فجَوات صغيرة تدغدغ النائمين ، وتوقظهم برفق ولطف ، وكأنها تقول لهم : يكفيكم ما أنتم عليه من غفلة ، قوموا لتبحثوا عن خلاص من هذه المصيبة التي حلّت ، لا تدرون ما الله فاعل بكم إذا ثبتَتْ في مكانها ... هيا انهضوا فادفعوها ، واسألوا الله العون ، والتمسوا رحمته .
إنهم يتحركون ، لقد شرَعت الحياة تدب فيهم ، فتمددت أوصالهم هنا وهناك يمنة ويسْرة ، فحمد أولهم ربّه أن أحياه بعد ما أماته – ولمّا يقم – وشكر الثاني ربّه على نعمة الأمن والأمان – ولمّا يفتحْ عينيه – وصلى الثالث على موسى وهارون اللذَين هداه الله بهما بعد أن ذكر الله ونهض ... ولكن أين النور المنبثق ؟ أين الضياء يملأ المكان؟ .. كلها تساؤلات فرضتْها اللحظة التي رأى جوّ الكهف فيها خانقاً ... هيّا يا صاحبيّ ، أنا عاجز عن فهم ما جرى ... نطقها سريعاً ، فقفزا فوراً كأنهما في سباق ، يستكشفان ما حلّ بهم ، ويتعرّفان الموقف ، ففوجئا بما فوجئ به صاحبهما آنفاً .
اندفع أحدهما نحو الصخرة ليبعدها عن الباب ، فارتدّ خائباً ... عاود الأمرَ فانتكس ، جرّب صاحباه ، فلم يُفلحا ، وأنّى لمخلوق ضعيف أن يزحزح وتداً عظيماً من أوتاد الأرض ؟!
تكاتف الثلاثة وأجمعوا قوّتهم ، وهاجموا الصخرة بعنف ارتدّوا عنها بمثله ، أو أشدّ . فلما يئسوا من زحزحتها ، ورأوا الموت المرعب يُطِلّ عليهم من بين فروضها عادوا إلى أنفسهم يفكّرون ، وعن مخرج مما هم فيه يبحثون .
وشاء الله الرحيم بعباده أن ينجّيَهم ، فألهمهم الدعاء له ، والالتجاء إليه . أليس سبحانه هو القائل : " وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم "؟ ! .. بلى والله .. يا من يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ؛ نجِّنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
وبدا الثلاثة يجأرون بالدعاء ، وكانوا صالحين ، فهداهم الله أن يسألوه بأفضل أعمالهم الخالصة لوجهه الكريم ، التي ليس فيها مُراءاة ، ولايبغون بها سوى رضا الله وجنّته .
قال رجل منهم : كنت بارّاً بوالديّ ، أكرمهما ، وأفضّلهما على أولادي وزوجتي ، وأجتهد في خدمتهما . وعرف أهلي فيّ ذلك فساعدوني . وكان من عادتي أن أسقيهما الحليب عِشاءً قبل الجميع ، فتأخّرت مرة في حقلي ، أقلّم الأشجار وأعتني بالزرع ، ثم رُحت أحلب غبوقهما ، وانطلقتُ أسقيهما ، فوجدتهما نائمَين ، فكرهت ان اوقظهما ، وان أغبق قبلهما أحداً من الأهل والرقيق ، والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر ، والصبية حولي يتضاغَون من الجوع ، ويصيحون عند قدمي ، وهم فلذة كبدي ، فتشاغلتُ عنهم حتى استيقظا فشربا غبوقهما ، ثم سقيت أهلي وخدمي .... اللهم إن كنتُ فعلتُ هذا ابتغاء وجهك الكريم ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة .. فانفرجت الصخرة شيئاً لا يستطيعون الخروج منه .
وقال الثاني : أما أنا فقد كنت ميسور الحال ، أحيا رغداً من العيش ، وليَ ابنة عمّ جميلة المُحيّا ، بهيّة الطلعة ، أحبها ، وأرغب فيها ، فراودْتها عن نفسها ، فأبَتْ ، وبذلتُ لها المال ، فتمنّعتْ ، أغريتها بشتّى الوسائل ، فلم أنل منها ما أبتغي . فحبست ألمي وحسرتي في نفسي ، لا أنفرج إلا إذا نلتُها . ثم واتت الفرصة إذ جاءتني في سنة جديبة تطلب المساعدة من ابن عمّها على فقرها ، فراودتني نفسي على إغوائها ، واغتنمت حاجتَها وبؤسَها ، فأعطيتها مئة وعشرين ديناراً على أن تخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعَلَتْ ... يا لهف نفسي ، ويا سعادتي ، إنني قاب قوسين أو أدنى إلى اجتناء ثمرة صبري ... هاهي بين يدَيّ ، بل إنني منها مقام الزوج مكان العفة من زوجته ، والشهوة تنتفض في كل ذرّة من جسمي ... قالت والدمع يملأ مآقيها ، والحزن يتملّكها : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقّه . فالاتصال الزوجي قمة السعادة ، والحلال مَراحُ النفس وأُنسُ الروح ، أما الزنا فلذّة اللحظة ، وندم الحياة ، وذلّ الآخرة . .. دقّ قلبي رافضاً ، وختلجت أوصالي آبية الوقوع في الإثم ، ورأيتُ بعينَيْ قلبي غضب ربي ، فقمت عنها منصرفاً ، وتركت لها المال راغباً في عفو الله ومرضاته . .. اللهم ؛ إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك الكريم فافرُج عنا ما نحن فيه .... فانفرجت الصخرة ، غير أنهم لا يستطيعون الخروجَ منها .
وتقدّم الثالث ، فقال : اشتغل عندي عدد من الأُجراء ، وأعطيتُهم أجرَهم غير واحدٍ ترك أجره وذهب . فقلت : في نفسي : قد ترك الأجير حقه ، فانا أولى به . وقال لي الشيطان : ليس له عندك شيء .. وتحرك الإيمان في قلبي ، فأمرني أن أحتفظ بأجره ليأخذه إن عاد ... ارتحت لهذا القرار ، فأمرني إيماني ثانية حين رأى تجاوبي للخير : بل ثمّر له أجره . .. فأشركتُه في عملي حتى كثرت الأموال والإبل والبقر والغنم والرقيقُ ، وملأ المكانَ . فجاءني بعد حين فقال : يا عبد الله ؛ أدِّ إليّ أجري . فقلت : كلّ ما ترى في هذا الوادي لك ، فخذه . فقال الأجير : أتهزأ بي ؟! أهذا جزائي منك حين انشغلتُ ابتداءً فلم آخذ حقي ؟! فقلت له : إني لا أستهزئ بك ... وأخبرتُه أنني جادٌّ في قولي ، فقد ثمّرتُ أجره . فلما وثقَ صدقَ حديثي أخذ ماله وانطلق ، فاستاقه ، ولم يترك منه شيئاً . .. اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك ، فافرج عنا ما نحن فيه .. فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون . 
متفق عليه  رياض الصالحين ، باب التوبة 

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 



القصة السادسة
الملك الزاهد في ملكه
قال التلميذ لشيخه ، وقد جلس بين يديه صباح يوم صيفي جميل ، بعد أن انتهى الناس من صلاة الفجر : يا مولاي لمَ تقوم الشعوب في كثير من الأحيان بثورات على حكامهم ؟
قال الشيخ :
قد يظلمون رعيتهم ، فيُحمّلونهم ما لا يُطيقون ،
وقد تكون أحكامهم جائرة ،
وقد يتهاونون في تحمل مسؤولياتهم ،
وقد يفشلون في اتخاذ الأسباب التي تحفظ كرامة الأمة ،
وقد يتعاونون مع العدو لضعف يشعرون به أمامه ولا يعملون على الاستعداد له ،
أو يتعاملون مع العدو الذي صنعهم ليخدموه ، وليكونوا أداة القمع والإذلال لشعوبهم ... وهناك عوامل كثيرة – يا بني – تدفع الأمم إلى هذه الثورات .
قال التلميذ :
ولكنّ الشعوب هي التي تختار حكامها ، وكان أولى بها أن تختار من هو أهل لذلك .
قال الشيخ :
صدقت – يا بني – فالاختيار الجيد طريقة سليمة في الوصول إلى سُدّة الحكم ، فاختيار الحاكم يعتمد على أسس سليمة مثل الفهم الواسع ، والأهلية التي يتسم بها مثل : حسن الأخلاق والسيرة والسلوك الطيب ، وعلى رأس ذلك التزامُه بدينه وغَيرتُه عليه ، والعملُ بشريعة الله ، والعدلُ بين الرعية ...
ولكنْ هناك من يَغصب الحكم غصباً ، وهناك من يرثه وليس أهلاً له ، فيستغلون ملكهم ومناصبهم لمآربهم الشخصية معرضين عن مصلحة الوطن والأمة .. وحين تتحرك الجماهير رافضة أمثال هؤلاء معبرة عن غضبها يتشبثون بكراسيّهم وعروشهم بالنار والحديد ، فإذا هَوت العروش من تحتهم ، ومادت الأرض بهم استعانوا بالأعداء ليتمكنوا ، فلا تجد الشعوب بداً من اقتلاعهم ، فتثور عليهم .
قال التلميذ :
أكثر الحكام هذه الأيام من هذا الصنف المخزي - يا سيّدي – ما إنْ يمسكون بمقاليد الأمور حتى يعتقدوا أن الشعوب إنما وُجدت لتخدمهم لا ليخدموها ، فيجمعون الأموال ويتخذون وسائل الراحة لهم ولحاشيتهم وأتباعهم ، ويعتمدون الإذلال والإرهاب سبيلاً لتمكنهم ، واستتباب الأمر لهم ، وينسَون أنهم مسؤولون ، وعلى الله معروضون ، وأمامه محاسبون .
قال الشيخ :
هذا صحيح ... ولكنّ تاريخنا يحفل أيضاً بالخلفاء الراشدين ، والولاة العادلين ، والحكام الناصحين ، والملوك الزاهدين .
قال التلميذ :
أهناك ملوك زاهدون ؟ .
قال الشيخ :
نعم ؛ وما أكثرَهم . بعضهم كان يأكل من عمل يده وكدّ يمينه ، ويتخذ بطانة صالحة تعينه في أمور رعيّته ، ويتابع عن كثب مصالح مملكته ، فيستعمل العاملين المخلصين ، ويعاقب المفسدين ، ويُثْبت في الخدمة النابهين المحسنين ، ويعزل اللاهين العابثين ، ويعاقب الفاسدين .
وهناك من هاب مسؤوليّة الحكم ، ورأى ضعفه عن الاضطلاع بمسؤوليّته ، فتخلّى عنه ، وتنازل عنه لغيره طواعية مخافة الله أن يسأله : لمَ ضيّعْتَ المسلمين ؟.
قال التلميذ :
أفي تاريخنا من فعل ذلك ؟! إني أراهم هذه الأيامَ لا يتركونه إلا إلى القبر أو إلى السجن الطويل .
قال الشيخ:
من أمثالهم خالد بن يزيد بن معاوية الأموي ، وإبراهيم بن أدهم الزاهد اللذان تخليا عن الحكم ورفضاه ... وليس هذا حكراً على المسلمين ، فقد حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أحد ملوك بني إسرائيل هرب منهم حين أحسّ أنه ليس أهلاً لما اختاروه له .
قال التلميذ :
شوقتني – يا سيدي – أفلا تقص عليّ قصّته ؟!.
قال الشيخ :
حبّاً وكرامة – يا بني – فلا يبلغ العالم الفضل إلا عندما يبذل علمه لمستحقيه .
فقد ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل استخلفوا خليفة عليهم بعد النبي موسى عليه السلام ، فكان هذا الملك رجلاً صالحاً يعمل جهده نهاراً في خدمة رعيّته ، ويقوم الليلَ تعبّداً لله سبحانه وتعالى . فقام مرة يصلي فوق بيت المقدس في ليلة مقمرة ، صفت فيها السماء ، وسبَحتْ فيها أشعّة البدر الفضّية ، وتلألأت النجوم في كبدها ، فازدادت بهاءً وجمالاً ، وبدأ يحاسب نفسه ، ويعرض عليها ما فعل في خدمة دينه و أبناء ملته ، ويقارن بين ما فعله ، وما يستطيع فعله ، وما يجب أن يفعله ، فوجد نفسه مقصّراً في واجباته نحوهم ، ولم يجد الجرأة أن يقول لهم : اختاروا غيري ، فأنا لا أصلح لكم ، فلربّما حسبوا ذلك منه صلاحاً ، فأبَوا عليه رغبته ، وازدادوا به تمسّكاً ، وقد يعتزل في بيته ، فلا يقبلون منه ذلك ، ويصرّون على عودته ، ولا يُفرّطون به ، وقد يخرج عنهم إلى إحدى القرى متعبّداً منعزلاً ، فيتبعونه ، ولا يُقيلونه . .. ماذا يفعل ؟ .. فكّر ، وقلّب الأمور ، فهداه تفكيره إلى الهروب بعيداً حيث لا يعرفه أحد .. ولكنّ الجنود يحيطون به ويحمونه ؛. فإذا خرج خرجوا معه ، وإذا أصرّ أن يمشي وحده تبعوه من بُعد خوفاً عليه ، فلا مجال للهرب من الباب ... نظر حوله ، فرأى حبلاً ، ربطه في سقف المسجد ، وتدلّى على الأرض ، وانطلق دون أن يشعر به أحد .. ولم يكتشف حرسه ما فعل إلا صباحاً حين استأخروه ، فصعدوا سقف المسجد فوجدوا الحبل ، ولم يجدوه ....
أسرع متخفـّياً إلى أن وصل إلى بلدة على شاطئ البحر ، فوجد بعض أهلها يضربون في الرمل لـَبْناً ، فإذا جفّ صار قطعاً صلبة يبنى الناس بها بيوتهم ، فقال لهم : علّموني صنعتكم ، فأعملَ معكم ، فأنا غريب . قالوا : على الرحب والسَّعة ، وصار يعمل معهم ، ويأكل من كسب يده . ..
وأنس الناس به ، إلا أنهم رأوا منه عجباً ، فقد كان إذا حضرت الصلاة قام يصلي ... ماذا يفعل الرجل ؟ ! إنه يقوم بحركات لا يعرفونها ، ويتلو مالا يفهمون ! ..
لم يكن الملك الزاهد يتخفّى حين يصلي ويعبد الله تعالى ، ولم يكن يخجل وهو في بلاد الغربة أن يخالف الناس فيما يعتقدون ! إنه ما ترك المُلْك وهرب منه إلا ليعبد الله عز وجل دون أن يتحمّل – على ضعفه – مسؤولية غيره ، لكنه قويّ في الجهر بعقيدته ودينه ! لا يخاف من أحد .. هو على حق ، وصاحب الحق داعية في خلقه وفي عبادته ، يجهر بها ، ويدعو إليها . لا يخشى مغبّة أمره ، والداعية كتاب مفتوح يقرؤه الجميع ، فيرون فيه الفضيلة والأسوة الحسنة والصواب ، فيتبعونه .
رفع العمال إلى كبيرهم حاكمِ البلدة ما رأوه وما يرونه من هذا الغريب الزاهد المتعبّد ، يصفون له ما يفعله ذلك الرجل الكريم الخُلُق . فأرسل إليه أن يأتيه ، فأبى أن يجيب . طلبه إلى مقابلته مرات ثلاثاً ، فأعرض عن إجابته .
كان عليه - وهو الداعية - أن يلبي طلبه ويعرض عليه دينه ، فعسى أن يدخل فيه ، وكان عليه أن يقابله ويجيب عن أسئلته ، ويوضح له ما استغلق عليه وعلى عمّاله . لكنّ نقطة الضعف فيه ، هذه التي جعلته يهرب من بلده ، وينسلّ مبتعداً عن رعيّته تاركاً واجبه تجاههم بعد أن وثقوا به ، وسنّموه مسؤوليتهم هي التي جعلته يخطئ مرة ثانية فيأبى الذهاب إلى حاكم البلدة .
فماذا يفعل حاكم البلدة العاقل ؟ .. جاء بنفسه .. جاء تحمله دابّته .. فلما رآه الرجل فرّ ، فاتّبعه ، فأسرع هارباً ، فلما سبقه ناداه الحاكم : يا هذا ، انتظر ولا تخف . لا أريد بك سوءاً .. دعني أكلمك ! ..
فلمّا رأى الرجل أنه لا بد من الإجابة توقف حتى كلّمه ، وقصّ عليه خبره ز ولم يُخفِ عنه أنه كان ملكاً ، وأنه فرّ من الله إلى الله خوفاً أن يحمل تـَبـِعَة الحكم الثقيلة ، فهو ليس أهلاً لذلك ، فقد يخطئ ويظلم ، والظلم ظُلُمات يوم القيامة .
وقر في قلب الرجل الآخر ما قاله الأول ، وقال له : إني لأظنني لاحقاً بك ، سائراً على منوالك ،أنا مثلك يا أخي ، شغلتني الدنيا والعمل لها عن عبادة ربي ، فانقطعت لها ، وكدت أنساه ، ما أنت بأحوج إلى ما صنعتَ منّي . ... خذني معك ، فأنا منك وأنت منّي .. لسنا من أهل هذه الدنيا الفانية ، والعاقل يعمل للحياة الباقية .. هناك عند من لا يُخيّب سائله ، ولا يًضَيّع للعبد وسائله ، في كنف الله الكريم ..
نزل الرجل عن دابّته ، تركها لمن يريدُها ، ثم تبع صاحبه الذي رأى فيه الإخلاص لله تعالى ، والحب العميق لما عند الله .. تآخَيا في الله .. والحب في الله .. والتآخي فيه ذروة الإنسانيّة ، وقمّة السموّ ، إن السبب الذي يربطهما خالد أبديّ ، ليس لهوى النفس فيه مكان ... تنقطع جميع الأسباب الدنيَويّة ، ويبقى الحب في الله والأخُوّةُ فيه قوية متصلةً ، دائمة النماء ، يرويها النبع الثـّرّ على مرّ مدى الأيام ..
انطلقا يعبدان الله تعالى ، فعرفا طعم العبوديّة الرائق ، وعاشا في رحابها ما شاء الله لهما أن يعيشا ، وسألا الله تعالى أن يميتهما متجاورَين أخوين في الدنيا والآخرة .
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ماتا برُمَيْلة مصر ، لو كنت هناك لأريتُكم قبرَيْهما ... فقد وصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنني أراهما رأْيَ العين .

رواه الطبراني في المعجم الكبير
ج 1- ص/216 والأوسط ج2ص/ 112
 














قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة السابعة
الغلام والساحر
 

قال الساحر للملك : يا مولاي كبرت سني ، وقلت حركتي ، وضعفت همتي ، وبت أشعر أنني غير قادر على خدمتك تلك الخدمة التي أرضى عنها ، فابعث غلاماً أعلمه السحر ، وأدرّبه عليه، فيكون في خدمتك .
فاختار الملك غلاماً ذكياً يعلمه الساحر علوم السحر وأفانينه .
كان الغلام يذهب إليه كل يوم يأخذ فنون السحر بشغف ، حتى وثق به الساحر ، وجدّ في تعليمه . ومضت الأيام والغلام منهمك في عمله الجديد ، والملك يسأل الساحر عن تلميذه . فيمدحه هذا : إنه ذكيّ نجيب . إنْ يثابر على همّته وطموحه يكن له شأن عجيب .
حين انطلق الغلام كعادته ذات يوم إلى الساحر ، وكان في الوقت متّسع عرّج على القصر من طريق آخر يسلكه القليل من الناس ، يشرف على وادٍ ذي رياض عامرة ... ما أجمل هذا المكان ؟! ليتني أرتفع إلى الجبل قليلاً فأشرفَ على منظر أجمل وأبهى .. وارتفع ، فصدق حدسُه . إن المكان يبدو أكثر تناسقاً ، وأوضح منظراً .. جال ببصره هنا وهناك ، فرأى كوخاً في زاوية الطريق الملتوي الصاعد إلى القمّة، فحدّثتـْه نفسُه أن يأتيه مستكشفاً .. فماذا يفعل أصحابه بعيداً عن الناس إلا إذا كانوا يحبون العزلة، ويفضّلون الهدوء ! لما وصله رأى فيه رجلاً تبدو عليه سيما الوقار والجلال ، يشخص ببصره إلى السماء يدعو ويبتهل . فدنا منه يصغي إلى دعائه . فسمع قولاً يدل على حبّ وودّ، وذل وخضوع يوجّهه الرجل إلى محبوب لا يراه الغلام ، إنما يأنس إليه ويشعر بوجوده . ..
وحين أنهى الرجل دعاءه التفت إلى الفتى مبتسماً يقول :
أهلاً بك يا بني ، وهداك الله إلى الحق والإيمان .
قال الفتى : أي حقّ وأي إيمان تعنيه يا عمّاه ؟! .
قال الرجل : الإيمان بخالق السموات والأرض ومن فيهنّ ، بارئ النسمة وفالق الحبّة .
قال الفتى : أتقصد الملك ، يا عمّاه ؟.
قال الرجل : حاشاه أن يكون كذلك ، إنه مخلوق ضعيف ، ممن خلقه الله ، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً .
قال الفتى : إن الساحر أخبرني أن الملك إلهنا وخالقنا ، والساحر يعلمني السحر كي اكون في خدمة الملك .
قال الرجل : وهل يحتاج الخالق إلى مخلوقه يا بنيّ ؟! وكيف يكون إلهاً وهو يأكل ويشرب ، وينام ويستيقظ ؟ إنه مثلك ، يا بنيّ . بل أنت أفضل منه ، لأنه يحتاجك ، ولا تحتاجه ، وتخدمه ، ولا يقدّم لك شيئاً .
نزل هذا الكلام في قلب الغلام منزلاً حسناً ، فهو يخاطب الفطرة ويمازج العقل والقلب ، فقال له : علمني يا سيدي مما علمك الله .
فبدأ الراهب العابد يعلمه العقيدة الصحيحة ، ويعرّفه بالله خالق الكون ومدبّر الأمر سبحانه .
وكثر تردد الفتى على الراهب في طريقه إلى الساحر ، فكان إذا تاخر عليه ضربه . فشكا إلى الراهب ما يفعله الساحر به . فقال له : إذا خشيت الساحر فقل : أخّرني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : أخّرني الساحر . ..
فبينما الفتى على ذلك إذْ مرّ في طريقه على أناس وقفوا على الطريق لا يتجاوزونه خوفاً من دابّة عظيمة قطعت الطريق ، وحبست الناس . فقال في نفسه : اليوم أعرف آلساحر أفضل أم الراهب أفضل ؟. فأخذ حجراً ، وقال : اللهم ، إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابّة حتى يمضي الناس ؟ فرماها ، فقتلها . ومضى الناس ، فأتى الراهبَ ، فأخبره بما فعل .
قال له الراهب : أي بني ؛ أنت اليوم أفضل مني . فإن كنتَ قد استجاب الله دعاءك فقد قبلك ، وسيبتليك ، ويختبر إيمانك . فإن ابتليتَ فلا تدُلّ عليّ .
وعرف الناس فضل الغلام ، فصاروا يقصدونه ، فيشفي الله على يديه الأكمَهَ والأبرصَ ، ويداوي الناسَ من سائر الأدواء حتى انتشر صيتُه ، وذاع أمرُه بين الناس . فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ بما يفعل الفتى ، فأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له :
كلُّ ما بين يديّ من الأموال والهدايا لك ، إنْ شفيتـَني .
قال الغلام : أنا لا أشفي أحداً ، إنما اللهُ الشافي ، فإن آمنْتَ بالله تعالى دعوتُ الله فشفاك ... وهكذا يكون الداعيةُ إلى الله تعالى ، صادقاً مخلصاً لمولاه ، ينسب الخير إليه ، ويدعو العباد إلى الإيمان بربهم ، ويصلهم به . فآمن الرجل بالله ، ودعا الغلام له بالشفاء ، فشفاه الله تعالى لإيمانه به . فجاء الملكَ يجلس إليه كما كان يجلس .
فقال الملك : من ردّ عليكَ بصرَك ؟ ولو كان إلهاً ما سأله هذا السؤال ...
قال الجليس : إنه ربي .
قال الملك المتجبر الضالّ : أَوَلك ربّ غيري ؟!.
قال الرجل بلهجة المؤمن التقيّ : ربّي وربّك الله .
ثارت ثائرة الملك ، إذ كيف يتّخذ الرجلُ ربّاً سواه ؟ بل كيف ينكر ألوهيّة الملك ويقرنه به عبداً لله؟! .. فأخذه ، فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الفتى .
فلمّا مثـُل الفتى بين يدي الملك قال له الملك متعجّباً : أيْ بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ به المرضى ، وتفعل العجائب ، وتقدر على مالا يقدر عليه غيرك ؟!
قال الفتى بلهجة الوائق بالله ، المؤمن بربه ، الذي لا يخاف أحداً : إنني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي اللهُ تعالى خالق الكون ومدبرُ أمره ، الذي يعلم السرّ وأخفى ، وهو على كل شيء قدير .
غضب الملك ، وهدّده بالعذاب الأليم إنْ لم يرجعْ إلى ما كان عليه ... إلى الضلال بعد الهدى ، والظلام بعد النور ، والسفاهة بعد الحكمة .. فبدأ زبانيته يعذبون الفتى ، علّهم يعرفون من علّمه هذا ، وجرّأه على الملك . فصبر وتحمّل ، فزادوا في تعذيبه حتى انهار ، فدلّ على الراهب ، فجيء به ، وعُذّب ليعود عن دينه ، فأبى . فدعا الملك بالمنشار ، فوضعه في مفرق رأسه ، فشقّه حتى وقع شِقّاه . ثمّ جيء بجليس الملك ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوُضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقّه به حتى وقع شِقّاه . ... وطارت روحاهما إلى بارئهما مؤمنتين طاهرتين .
إن المؤمن حين يلامس الإيمانُ شَغاف قلبه لا يأبهُ بالمغريات ، ولا يخاف العذاب ، إنما يبقى ثابتاً ثبات الجبال الرواسي ، صامداً لا يعرف الهلعُ من الموت طريقاً إليه .
وأمر الملك زبانيته أن يجرّوا إليه الغلام مكبّلاً ، ففعلوا . فأمره أن يعود عن دينه إلى عبادته ، فأبى . فهدّده بالويل والثبور وعظائم الأمور ، فازداد إيماناً بربّه وتمسّكاً بدينه .
فلم يأمر بقتله لأنه بحاجة إليه ، فهو الذي يهيئه على يد الساحر ليكون الأداة التي يسحر بها قلوب الأمة ، فيسلب إرادتها ، وتخر له ساجدة تسبح بحمده وتقدس له . . فصمّم على إرهابه وتخويفه ، فقال لبعض جنوده على مسمعٍ من الفتى :
اذهبوا به إلى أعلى جبل في مملكتي ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروتَه فمروه أن يرجع إلى صوابه! ، فإن أصرّ على عناده فاطرحوه في الوادي السحيق ليكون مزقاً تأكله حشرات الأرض . .. فذهبوا به ، فصعدوا الجبل ، وراودوه عن دينه ، فالتجأ إلى الله تعالى أن يدفع عنه كيدهم . فكانت المفاجأة ُ العجيبة ُ .. لقد لبى الله القادر على كل شيء نداءَه ، فرجف الجبل بهم ، فسقطوا في الهاوية التي خوّفوه بها .. وسلّمه الله .. فجاء يمشي إلى الملك يخبره بنجاته وهلاكهم ، علّه يرعوي عن غيّه ، ويسلّم بالحقيقة ... وأنّى للأعمى أن يُبصر طريقاً ، وللأصمّ أن يسمع حديثاً ؟! .. لقد ركبه الشيطانُ وأقسم ليوردنّه موارد الهلاك ، فدفعه إلى بعض جنوده قائلاً :
لئنْ سلمْتَ من اليابسة إنك لن تسلم من الماء .
وأمرهم أن يأخذوه إلى عرض البحر ، ويراودوه عن دينه ، فإن أبى فلْيطرحوه في الماء مقروناً إلى قطع الحديد تغوص به إلى القاع ، فيكون طعاماً لحيتانه .
ففعلوا . فلمّا توسّطوا البحر خوّفوه ، ورغّبوه ، فلم يُفلحوا معه ، فلمّا همّوا أن يُلقوه في الماء قال : يارب ؛ ليس لي سواك ، فنجّني في الثانية كما نجّيتني في الأولى . .. ويا لروعة النداء! ويا لسرعة الاستجابة ! لقد انكفأت بهم السفينة ، فغرقوا جميعاً إلا الذي أراد الله سبحانه له النجاة .
فجاء يمشي إلى الملك يتحدّاه .
فقال له الملك : أين أصحابك ؟! .
قال الفتى : كفانيهم الله تعالى ، أيها الملك ؛ ما زال في الوقت متّسع ، ورحمة الله قريب من المحسنين ، فكن من المؤمنين ، فما يفيدك جبروتك شيئاً ..
قال الملك : لأقتلنّك أو تعودَ إلى عبادتي .
فلما عرف الفتى أن الملك قد ران الكفر على قلبه ، وملك جوانحه أراد أن يعلّم الناس أن الملك ضعيف مهما تجبر ، وأنه مَهين لا يملك من القوّة الحقيقية شيئاً ، فلجأ إلى طريقة تعرّي الملك ، وتظهره على حقيقته أمام الناس جميعاً في صعيد واحد .
قال : أيها الملك ؛ إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به .
قال الملك : ماهو ؟ .
قال الفتى : تجمع الناس في متسع من الأرض رحبٍ ، وتصلبني على جذع شجرة ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، ثم تضع السهم وسط القوس ، ثم تصيح بصوت عال يسمعه الجميع : باسم رب هذا الغلام... ثم ارمني ، فإنّك إن فعلْتَ ذلك قتلتَني .
لم ينتبه الملك إلى قصد الفتى من جمع الناس ، إنما كان همّـه قتل الفتى والتخلّص منه .
فجمع الناس يوهمهم أنه قادر على قتل الغلام أمامهم ، وإثباتِ ألوهيّته المهزوزة أمامهم . فقد كثر حديثُهم ولغَـَطُهم ...
وفعل ما أمر به الفتى ، وصاح بأعلى صوته : باسم ربّ الغلام . ثم رماه ، فوقع السهم في صدغه ، فمات الفتى شهيداً ، تصعد روحه إلى السموات العلا .
صاح الناس صيحة واحدة ملأت الآفاق : آمنّا بربّ الغلام . . ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
ما هذا ؟! نكون في أمر فتىً واحدٍ ، فيصبح الناسُ كلهم على دينه ؟! .. حسبت أنني تخلصت منه ، فإذا الناس جميعاً يؤمنون بما آمن به ؟ ... احتال عليّ ، فأظهر ضعفي أمامهم ، ووضع من هيبتي في قلوبهم ؟!... لأذيقنّهم الموتَ أهوالاً .. أنا الذي أميت واحيي ... أنا من يأمر فيُطاع... وينهى ، فيُنتهى عما نهى .
وجمع جنودَه ، فأمرهم أن يحفروا الخنادق ،فحفروا . وأن يجمعوا الحطب ، فجمعوا . وأن يوقدوا فيها النيران ، فاوقدوا . فلمّا تأجّجتْ أمر الناس أن يعودوا إلى دينهم ، فأبَوا ... وهل يعود إلى الكفر من ذاق طعم الإيمان ؟! وهل يرجع إلى السفاهة من أوتي الحكمة ؟! لا وألف لا ... إذاً أقحموهم النارَ .. فبدأ الجنودُ يدفعون المؤمنين إليها ... منظر رهيب عجيب .. إن نار الدنيا لأهون من نار الآخرة .. إن لقاء الله خير من الدنيا وما عليها .... جموع المؤمنين تصلى النار غير هيّابة ولا وجلة ، يكبّرون ، ويهللون ، ويقتحمون النار .
وكان فيهم امرأة تحمل وليدها .. يا رب أرمي بنفسي ؟ ...أنا راضية بذلك . ولكن كيف أرمي بولدي ؟! أنا راضية باحتراقي ، ولكنْ ولدي.. وفلذةُ كبدي ! ما أفعل به ؛ يا ربّ ؟ أأرميه في هذا الأتون ؟! .. فأنطق الله وليدها ، فسمعته يقول : يا أماه ؛ اصبري ، فإنك على الحق ... فرمت به ، ورمت بنفسها ، فكانت من الخالدين .
رواه مسلم
رياض الصالحين ، باب النصر
 






قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثامنة
" التائب"
 

يا رب ؛ هل من توبة فأتوبَ ؟ هل من عفو فأتعلقَ به ؟ إن ذنبي كبير ، ووزري خطير ، وإثمي جثم على قلبي ، ما من فاحشة إلا ارتكبت ، ولا ظلم إلا فعلت ، ولا كبيرة إلا اجترحت ، وها أنذا أشعر كأن الجبال الرواسي تحطم صدري ، والبحار تفجّر فؤادي ، والندم يأكل قلبي ....
هل من توبة فأتوب ؟ هل من أوبة فأثوب ؟ يا غفار قد لجأت إليك ، وعوّلت عليك ، فلا تردني كسيراً ... أعلم أنني أسأت إلى نفسي وإلى عبادك ، وهل أكبر جرماً من معتد قتل تسعة وتسعين نفساً ؟!. إلا أن رحمتك أكبر ، وعفوك أوسع ، وغفرانك أرحب ، اللهم لا تردني خائباً .. اللهم لا تردني خائباً ...
وانطلق عمّن يبثه سريرة نفسه ، ويعلن التوبة والإنابة إلى الله على يديه . فدلّوه على راهب انقطع إلى صخرة يتبتل في فيئها ، ويعبد الله في ظلها . فباح له بمكنونات نفسه ، واعترف له بما فعل .. لم يكن الراهب سوى عابد جاهل لم يعرف الله حق المعرفة . جهل أن الإنسان إذا جاء بقراب الأرض خطايا نادماً تائباً قبله الله تعالى بملئها عفواً ومغفرة . فقال الراهب للرجل مستعظماً ما فعله بملء فيه : لا توبة لك ، لا توبة لك . ...
واسودت الدنيا بعيني الرجل ، وشعر بالإحباط يشله . ثم حرّكه شيطانه ، فوثب على الراهب فقتله فأكمل به المئة ... ثم ثاب إلى رشده يقول : إنّ من يقتل مئة كمن يقتل تسعة وتسعين ، والتوبة لا تقف عند حد . ..
هل من رجل يتوب على يديه ؟ هل من عالم يروي ظمأه ؟ إنه يبحث عن أعلم أهل الأرض كي يرتاح بمساعدته من وَعثاء الطريق المظلم ، وينتشله من وهدة المفاسد ... فدلوه على رجل عالم آنس منه أذناً صاغية ووجهاً مشرقاً ، وذهناً وقّاداً ، وبصيرة نافذة . ففضفض له عما في نفسه ، وقال له : هل من توبة؟ أيغفر الله لي أفعالي وجرائر أعمالي ؟ أجابه العالم إجابة الواثق مما يقول : نعم ؛ ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ .
قال التائب : يا سيدي إني فعلتُ وفعلتُ .
قال له العالم : إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده أشدّ مما يفرح العبد بتوبته .
قال التائب : ولكنني أسرفت في الفساد ، وروّعت العباد ، ولم أترك مَوبقاً إلا أتيته !.
قال العالم : يقول الله تعالى مخاطباً أمثالك " قل : يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إنه يغفر الذنوب جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم " لا شيء يحول بينك ، وبين التوبة يا أخي ... أسرعْ إلى الله يسرع إليك . ، واستغفره يغفرْ لك .
لم يتمالك الرجل أن بكى من الفرح . وأي فرح أعظمُ من الرجوع إلى حظيرة التقوى وروضة الإيمان ؟ هنالك حيث تتخلص الأرواح من أدرانها ، وتعيش في طهر الملائك السابحين في ملكوت الله ..
ولكنْ يا أخي – قال العالم للرجل – أنت بحاجة إلى من يشدّ أزرك ، ويأخذ بيدك إلى الخير ، ويدلك على طريقه ، وتلك الأرض التي كنت فيها أرض فساد وشر ، فلا تعُد إليها ، وانطلق إلى أرض كذا وكذا ، فهي عامرة بالحب والتقوى ، وفيها أناس يعبدون الله تعالى ، فاعبد الله معهم ، فمن خالط السعيد سعِد، ومن عاشر المؤمن استقى منه ، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية . فابحث عن المجتمع المؤمن الطاهر تكن طاهراً ، وابتعد عن المجتمع الفاسد تنجُ منه وتتّقِ شرّه .
انطلق الرجل التائب إلى تلك الأرض بنفس غير التي كانت له ، وروح غير الروح التي كان يحملها ، انطلق بإيمانه الجديد ونفسه الطموح ، وروحه الوثـّابة إلى عالم الأمن والامان ، إلى مجتمع الفضيلة والرشاد ، يسأل الله العون والسداد ، يلهج لسانُه بذكر الله ، وتتحرك جوانحه شوقاً إلى إخوانه في العقيدة .
وانتصف الطريق أو كاد ، ولم يبلغِ الأمل المنشود . كانت نيتُه صحيحة ، ورغبته في الهدى صادقة ، إلا أن الأجل وافاه ، وملك الموت قبض روحه ، ولكل أجل كتاب .
تنازعت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فيه ، كل فريق يريد أخذه .
قالت ملائكة الرحمة : نحن أحق به ، فقد جاء إلى الله تائباً ، مقبلاً بقلبه ، عازماً على فعل الخير ، مصمماً على نسيان ماضيه ، والبدءِ من جديد إنساناً مؤمناً تقيّاً .
قالت ملائكة العذاب : بل نحن أحقّ به ، إنه لم يعمل خيراً قطُّ .
واختصمت فيه ، كل فريق يُدلي بحجته ، ويسعى لأخذه .
وأراد الله عز وجل أن يعلّم ملائكته أولاً ، والناسَ ثانياً إن التوبة إنْ صحّتْ ، والإنابة إن تأكّدَتْ فالعمل تبَعٌ لها ، وكأيّنْ من أناس دخلوا الجنّة ، ولمّا يصلّوا لله ركعة واحدة إذ وافتهم مناياهم ، وقد خضعت قلوبهم لذكر الله ، فآمنوا به ، وأسلموا له .
أراد الله برحمته أن يعرّف عباده أن اللجوء إليه نجاة ٌمن النار ، ويالها من نجاة ! وفوزٌ بالجنه ، وياله من فوز! ، فأرسل ملَكاً في صورة آدميّ - تنويهاً ببني آدم ، وتنبيهاً إلى أنّ منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا – فحكّموه بينهم ، فقال لهم :
قيسوا ما بين الأرضَين ، فإلى أيتهما كان أقربَ فهو له .
فأوحى الله إلى أرض السوء أن تباعدي . وإلى أرض الخير أن تقرّبي .
فقاسوا ما بينهما ، فوجدوا الرجل التائب أقرب إلى الأرض التي قصدها بشبرواحد! ياسبحان الله ، ويارحمة الله ! ... صدَق اللهَ ، فصَدَقه الله ُ ... صار أقربَ إلى أرض النور والإيمان بفضل الواحد الديّان ... فقبضتْه ملائكة الرحمة .
 


 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة التاسعة
عاقبة السرقة
 

يوشع بن نون نبي من أنبياء بني إسرائيل ،من نسل يوسف ، كان مرافقاً لموسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام ، وهو الفتى الذي صحب موسى لملاقاة الرجل الصالح الذي ذكرت قصتـُه في سورة الكهف " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقـُباً " .. هذا النبي الكريم خَلَفَ موسى في حمل الأمانة وتبليغ الرسالة .
انطلق هذا النبي الكريم لفتح القدس ، وأراد أن يكون جنودُه من الذين خلّفوا الدنيا وراءهم ، ورغبوا في إرضاء الله تعالى والجهاد في سبيله ، لا يَشغَلُهم عن ذلك شاغل . فمنع عدّة أصناف من بني إسرائيل أن يقاتلوا معه لانشغالهم بالدنيا وزخرفها ..
1- منهم الرجال الذين عقدوا على نساء ، ولم يدخلوا بهنّ . فهؤلاء ينتظرون الفرصة التي يعودون فيها إلى نسائهم . . فقتالهم سيكون إذاً قتالَ مَن يرجو الدنيا ، ويسعى إليها .
2- ومنهم من بنى داراً ، ولمـّا تكتملْ ، فهؤلاء قلوبهم معلّقة بها ، يتمنّون العودة إليها ، يبنون جدرانها ، ويرفعون سقوفها .
3- ومنهم من يمتلك أغناماً ونوقاً حان وقت ولادتها كي تكثـُر وتنمو ، فهم يرصدون الزمن الذين يعودون بعده إلى أموالهم .
هؤلاء الأصنافُ الثلاثةُ لن يبذلوا جهدهم في لقاء العدو وجهادهم إياه . أضعَفَه انشغالُهم بالدنيا ... فليكن الجيشُ - إذاً - جيشاً ربّانياً يبذل النفس رخيصة لله تعالى .
كانت القدس من أحصن المدائن أسواراً ، وأعلاها قصوراً ، وأكثرها أهلاً . فحاصرها ستة أشهر . ثم إنهم أحاطوا بها يوماً إحاطة السوار بالمعصم ، وضربوا الأبواب ، وكبّروا تكبيرة رجل واحد ، فتفسخ سورُها ، وسقط وجبة واحدة ، فدخلوها ، وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم ، وقتلوا اثني عشر ألفاً من الرجال ، وحاربوا ملوكاً كثيرة ، وظهروا على واحد وثلاثين ملكاً من ملوك الشام . وذكروا أنه – يوشع بن نون عليه السلام – انتهى محاصرتـَه لها إلى يوم الجمعة بعد العصر . فلما غربت الشمس أو كادتْ تغرب ، ويدخل عليهم السبت - حيث شُرع لهم أن لا يقاتلوا فيه – قال النبي يوشع للشمس : إنّك مأمورة ، وأنا مأمور ؛ اللهم احبسها عليّ . فحبسها الله عليه حتى تمكن من فتح المدينة ، وأمر القمر فوقف عن الطلوع .... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس لم تُحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " رواه أحمد .
وجمع يوشع الغنائم كلّها ، فالغنائم – قبل الإسلام – لم تكن تحِلّ للمقاتلين ، بل كان القائد يحرقها كي لا تتعلّق أفئدةٌ المجاهدين بلـَعاع الدنيا وزينتها ، وليكون جهادُهم خالصاً لوجه الله الكريم سبحانه .... وقدّمها للنيران ، فلم تأكلها . فعلم أنّ بعض المقاتلين سرق منها شيئاً ...
فكيف يتوصل النبي الكريم إلى معرفة السارقين ، ونوع المسروق ؟ !
جمع رؤساء القبائل ، وأمرهم بمبايعته على الصدق في الجهاد . فمدوا أيديهم إليه يصافحونه ويبايعون . فلزِقتْ يد رجل بيده ، فقال بلهجة الواثق : فيكم السارق . فيكم أيها الرجل .
فقال الرجل – زعيم قبيلته – ما نفعل يا نبيّ الله ؟
قال : اجمع رجال قبيلتك يبايعونني .
فجمعهم ، وهم لا يدرون سبب تخصيصهم بالمبايعة ... فلما طفِقوا يبايعونه لزِقتْ أيدي رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : أنتم السارقون . هيا أعيدوا ما أخذتموه ... فأخرجوا كميّة من الذهب في صُرّة ، فبدت كأنها رأس بقرة في حجمها .
فوضعوها على المال المجموع ، فأقبلت النار على الغنائم فأحرقتها .

متفق عليه / رياض الصالحين
 


















 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة العاشرة 
التكبر والتواضع
 

ثلاثة من بني إسرائيل رفع كل منهم يديه إلى السماء يدعو الله أن يفرّج عنه ما فيه من مصاب .
أما الأول فكان أبرص ، وأما الثاني فأقرع ، والثالث أعمى .
فأراد الله سبحانه وتعالى أن يختبرهم ، فأرسل إليهم ملَكاً .
- فلمّا جاء الأبرصَ قال : أي شيء أحبّ إليك ؟
قال : لون حسَن ، وجلد حسن، ويذهب عني هذا البرَصُ الذي استقذرني الناسُ له ، فتقزّزتْ نفوسُهم ، وتحاشَوني .. إني لأشعر بالأسى يجرح شعوري ، والخزي ِ يلاحقـُني .
قال الملَك : ألا ترى أن الصبر على ذلك ثوابُه الجنـّة؟
قال : بلى ، ولكنّ العافية أوسع لي .
قال الملك : ولَئِنْ شفاك الله ما أنت صانعٌ؟
قال : الشكرُ لله سبحانه ، ولأكونَـنّ عند حسن ظن ربي بي .
فمسحه الملك ، فذهب عنه قذَرُه ، وانقلب كأحسن ما يكون الرجلُ .. لونٌ حسنٌ ، ومنظرٌ بهِيّ ، وعافيةٌ . .. كل ذلك بإذن الله سبحانه .
ثم قال الملَك : أي المال أحبّ إليك؟
قال : الإبل . ... فأعطاه الملَك ناقةً عُشَراءَ ( حاملاً) ، وقال له : بارك الله لك فيها ...
- وأتى الملَكُ الأقرعَ ، فقال : أي شيء أحبّ لك ؟
قال الأقرعُ : شعر حسنٌ ، فإن ذهاب شعري وتقيّح رأسي نفـّر الناس منّي ، وكرّهني إليهم .
قال الملك : ولكنّ الصبر على هذه البلوى واحتساب الأجر عند الله خير .
قال الأقرع : نعم ، ولكنّ العافية أوسع لي .
قال الملك : ما تصنع إن شفاك الله وجمّلك ؟
قال : الشكرُ لله نُصب عيني ، ولأكونَنّ عند حسن ظن ربي بي .
فمسحه الملَك ، فذهب عنه درَن رأسه بإذن الله تعالى ، وكُسِيَ شعراً جميلاً أظهر حُسنَه ، فامتلأ سعادة .
ثمّ قال الملك : أيّ المال أحبّ إليك ؟
قال الرجل : أحبّ البقر . ... فأعطاه الملك بقرةً حاملاً ، وقال له : بارك الله لك فيها ...
- وأتى الملك ثالثهم – الأعمى - ، فقال : أيّ شيء أحبّ لك ؟
قال الأعمى : أن يرد الله عليّ بصري ، فأبصر كما يبصر الناس .
قال الملك : ألست معي أن الابتلاء مع الصبر يرفع درجات المؤمن في الجنّة ؟!
قال الأعمى : بلى ، لست أنكر ذلك ، ولكنني أتحاشى الناس كي لا يقعوا منّي على ما يكرّههم فيّ ، وأرجو ربي أن يعينني على شكره .
فمسحه الملك ، فردّ الله عليه بصره . ثم قال له : أيّ المال أحبّ إليك ؟
قال : الغنم ... فأعطاه الملك شاة والداً ، وقال له : بارك الله لك فيها ...
فأنتج الأول إبِلاً كثيرة ملأت الوادي .
وأنتج الثاني بقراً كثيراً ملأ الوادي .
وولد الغنم ، فكان له منها وادٍ ممتلئ.
مرّت الأيامُ ، وعاش هؤلاء الثلاثة في رغَدٍ من العيش وبُحبوحة . وعادوا في الناس كأحسن ما يكون الرجل في أهله وعشيرته ، وكان لهم في أقوامهم ومعارفهم العزُّ والسؤدُدُ ...
وحان وقتُ الاختبار ... ألمْ يدّعِ كل منهم أن يكون لله عبداً شكوراً ؟ وأن يحسن إلى الفقراء والمرضى وأبناء السبيل وأهل الحاجة ، وأن لا يرد أحداً قصَدَه ؟ وأن يكون عند حسن ظن ربه به ؟ والسعيدُ من صدَق اللهَ وعدَه.
جاء الملك إلى من كان أبرص فشفاه الله ... جاءه على هيئته يوم كان أبرص تكره العينان رؤيته .
فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلن أصل إلى أهلي وبلدي إلا بفضل الله ، ثم بجودك وكرمك .. أرجو أن تهبني جملاً يبلّغني الأهل والبلد .
قال : كنت أود أن أعطيك ، ولكنني لا أستطيع لكثرة حقوق الناس عليّ وضيق يدي .
قال الملك : أسألك بالله الذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال الوافر أن لا تبخل عليّ ، وأن تكرمني كما أكرمك الله .
قال : لا تُكثر المسألة أيها الرجل ، هيا اغرب عن وجهي .
قال الملك – وهو ما يزال على هيئة الأبرص – يذكّره بما كان عليه ، علّه يرعوي ، فيفي اللهَ ما وعده : كأني أعرفك ؛ ألم تكن أبرص يقذرك الناس فجمّلك الله ؟ وفقيراً ، فأغناك الله ؟
قال الرجل منكراً ذلك جاحداً نعمة الله وفضله : لم أكن كما تدّعي - أيها الأفـّاك - إنما ورثت المال عن آبائي العظام وأجدادي الكرام ، كابراً عن كابر .
وهنا قال الملك بعد أن ذكـّر فأعذر : إن كنت كاذباً فإني أسأل الله أن تعود كما كنت .
وفجأة عاد الرجل – كما كان - أبرص كريه المنظر .. لم يف ما قطع على نفسه لله من عهد ، فعاد سيرته الأولى جزاء غدره وإخلافه .
وأتى الملك من كان أقرع على هيئته وصورته ، فقال له مثل ما قال لسابقه . فردّ عليه بمثل ما ردّ الأبرصُ عليه . فدعا الملك عليه أن يعود أقرع كما كان يقذره الناس ويتحاشونه ، فعاد المسكين كما كان جزاء وفاقاً .. لم يحفظ نعمة الله عليه بالشكر وأداء الحقوق .
وجاء الملك إلى من كان أعمى على هيئته وصورته السابقة فقال :
رجل مسكين ، وابن سبيل ، انقطعت بي السبل في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك . أسألك بالذي ردّ عليك بصرك ، ورزقك من فضله العميم شاةً أتبلغ بها في سفري .
نظر الرجل إليه في ضعفه وفقره فأشفق عليه ، وتذكر ما كان هو عليه من هذا الضعف وقلة الحيلة ، فحمد الله تعالى على لطفه فيه .. وبالشكر تدوم النعم .
ثم قال له : صدقت فيما قلت يا أخا الإيمان ، لقد كنتُ كما قلتَ . وقد ردّ الله عليّ بصري ، وأكرمني فرزقني ، وأقسمت لأكوننّ من الشاكرين ؛ فخذ ما شئت من الغنم ، وما رغبتَ من المال ، ولن أمنعك ذلك ، فلله المنّة أولاً وآخراً .
قال الملك : أمسك عليك مالك ، بارك الله لك فيه ، إنما اختبرك الله وصاحبيك ، فرضي عنك وسخط عليهما .
متفق عليه / رياض الصالحين .















قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 

القصة الحادية عشرة 
 -
ثواب العمل الصالح -

المشهد الأول :
انتصف النهار ، واشتدّت حرارة الشمس ، كان الهواء ساكناً سكوناً عجيباً غابت فيه النسمة ، فازدادت مشقة الطريق ، كان وحده يمشي ، يتقاطر جبينه عرقاً ، وينبثق من مسام جلده ، فتمتصه ثيابه حتى بدت مبللة تكاد تُعصر...
شعر بالعطش الشديد ، ولكن أين الماء ؟ لم يبق معه منه شيء... حرّك قِربته ، فلم يسمع ارتطام الماء فيها ، وضع فوّهتها على فيه فلم تبِضّ بقطرة ... بدا لعابه يقِل ، وفمه يجف ، وشفتاه تتشققان ...
بحث حوله فهُيّئ له أن رأى ماءً ... فلما قصده لقيه سراباً .. بدأت عيناه تريه كل شيء أمامه أنهاراً سَرعان ما تتبخر حين يُسرع إليها ... سأل الله حُسْن الختام ... وحين كاد يسقط على الأرض رأى على مدىً قصير منه حافة بئر ... يا ألله ؛ أحقاً ما يراه أم هو يتخيّل ؟
شد عزمه ، وبادر بخطاً ثقيلة نحوه ... وصله وأطلّ عليه فرأى صورته . ورمى فيه حجراً فأسمعه صوت ارتطامه بالماء ... نزل وشعر بالبرودة تدغدغ جسمه ... لقد وصل إلى الماء ... ووضع فمه على صفحته ، وعبّ منه كثيراً حتى ارتوى ...
لم يشعر بعد ذلك بشيء ... أمَرّ عليه وقتٌ طويل وهو نائم ؟ إنه لا يدري ... لكنه أحسّ بالعافية تسري في بدنه ، لقد عادت إليه الحياة " وجعلنا من الماء كل شيء حيّ " .. وقبل أن يخرج من البئر شرب كثيراً حتى كاد الماء يخرج من عينيه وأذنيه وأصابع يديه !! لكنه كان قد رمى قربته في الطريق فأضاع فائدة كبيرة .
لم يبتعد عن البئر كثيراً حين رأى كلباً يلهث ، يأكل الثرى من العطش ، إنه قرب الماء ، لكنْ لا يستطيع النزول إلى البئر . .. لقد بلغ العطشُ بالكلب مثل الذي كان بلغ منه ، فأخذته الرأفة ، وهمّ أن يسقيه ، فماذا يفعل ؟! إن الكلب لا يستطيع النزول إلى الماء ، وليس معه قربته أو إداوته ، ليس معه شيء يحمل فيه الماء ليسقي الكلب العطشان . يجب أن يسقيه ، فماذا يفعل ؟
هداه تفكيره بل هداه الله تعالى حين رأى رحمته بالحيوان إلى أن ينزل البئر ، فيخلع حذاءه ويملأه ماءً ويحمله بفمه ، ويصعد، فيسقي الكلب . ... أعاد ذلك مرات ، حتى رأى ذلك الحيوانَ الأعجم ينصرف عنه مبتعداً وينظر إليه نظرات ملؤها الاعتراف بالجميل والفضل والشكر الجزيل ... فقد أنقذه من الموت .
حمد الرجل ربه لنفسه ، وحمِده لهذا الحيوان ، ... ولم يكن الله سبحانه غافلاً عما فعله الرجل ، فأكرمه غاية الإكرام ، ورحمه واسع الرحمة ..
أتدرون كيف رحمه وكافأه؟ لقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الله غفر له كل ذنوبه ، وأدخله الجنة دون حساب .
يا ألله ، يا ألله ، يا ألله ؛ أنت الرحمن الرحيم .. اغفر لنا ذنوبنا ، وعافنا واعف عنا . يـــارب .
متفق عليه
رياض الصالحين / باب في بيان كثرة طرق الخير

المشهد الثاني :
إنه مسلم يحب الخير لإخوانه في العقيدة ، ويرجو لهم السلامة ، ويسأل الله من كل قلبه أن يحيا المسلمون في أمن وأمان ، لا يعكر صفوَهم كدرٌ ، ولا يَشوب حياتهم شائبةٌ ، فالمجتمع المسلم حين يكون متحابّاً متآلفاً ولُحمة واحدةً يكون قوياً متماسكاً ...
لقد رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة ، ولمّا يعملْ بعدُ العملَ الذي يؤهلُه أن يكون هناك في رَبَضِها ، وفي رحمة الله وفضله ، ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلب بشر .
بلى إن الله تعالى يُدخل المسلم الجنة على عمله الخالص ولو كان قليلاً ، بل إنه يدخله الجنة على نيّتة الخالصة الصادقة ، ولمّا يعملْ بها .
وكانت نيّة هذا المسلم صادقة خالصة لوجه الله الكريم ، وكان عملُه يدل على ذلك . وهل أفضل من أن يكون المسلم في خدمة إخوانه يهتم بأمنهم وسلامتهم؟!
لقد مرّ بغصن شجرة على ظهر طريق ، أشواكُه تؤذي المسلمين ، يمر أحدهم دون أن ينتبه ، فيخمشه الغصن ، أو تلسعه أشواكُه ، أو تمزّق ثيابه ، أو ينتبه له ، فيتنحّى إلى زاوية ضيقة ، ولعلّ وراء الغصن حشرة سامّةٌ ، أو فوقه تغتنم دُنُوّه منها ، فتلسعه .
فكّر في كل هذا ، فعمد إلى الغصن ، فقطعه ، وحمله بعيداً عن الطريق ِ طريق ِ المسلمين . فاستحق بذلك رحمة الله تعالى ، ورضوانه وجنّةَ الخلد ونعيمها .
رواه مسلم

رياض الصالحين / باب في بيان كثرة طرق الخير
 



قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثانية عشرة
 -
إنه شفيعُنا: صلى الله عليه وسلم
 

قال التلميذ لأستاذه : ما يفعل الله بالناس يوم الحشر؟
قال الأستاذ :
يجمع الله تعالى الناس ومعهم الجن والحيوان والطير ، وتحيط بهم الملائكة ، وتقترب الشمس منهم قدْر ميل .
قال التلميذ : وهل يتحملون ذلك الحرّ يا أستاذ ؟!
قال الأستاذ :
الناس هنالك على قدر إيمانهم وأعمالهم . فمنهم من يصل عَرَقـُه إلى كعبيه ، ومنهم إلى ركبتيه ، ومنهم من يصل العرق إلى صرته ، ومنهم إلى أثدائهم ، ويصل العرق ببعضهم إلى فمه ، يكاد يُغرقـُه .
قال التلميذ : أهنالك يحاسبهم الله على أعمالهم ؟
قال الأستاذ :
لا ؛ إن يوم القيامة مواقف ، والحشر انتظار يطول على الكافر والعاصي ، أما المؤمن فإن الله يُظله تحت ظله ، يوم لا ظلّ إلا ظلُه .
قال التلميذ : ماذا يفعل الناس بهذا الموقف ؟
قال الأستاذ :
يشتدّ على الكافرين ما هم عليه ، ويحسبون أنه العذاب الشديد . فيدعون ربّهم أن يخلصهم منه ولو إلى جهنّم .
قال التلميذ : وهل العذاب في جهنّم أقل سوءاً؟! .
قال الأستاذ :
بل أشد بكثير ، إنما طول الموقف وشدّتُه عليهم يدفعهم إلى التعوّذ منه والتخلّص من بلواه ، ولو إلى ما هو أشدّ منه .
قال التلميذ : ما يفعل المؤمنون في ذلك اليوم العصيب؟.
قال الأستاذ :
إنهم أيضاً يرجون الخلاص منه حين يقربهم الله تعالى إلى الجنة فيرونها ويرجونها مشتاقين إليها .
قال التلميذ : فماذا يفعلون إذاً ؟ .
قال الأستاذ : يذهبون إلى أبيهم آدم يستشفعون به عند ربهم ، ليفتح لهم الجنّة .
قال التلميذ : فهل يفعل آدم ذلك ؟
قال الأستاذ :
يقول آدم : أتريدون دخول الجنة بشفاعة أبيكم ، وهو الذي أخرجكم منها حين عصى أمر ربه فأكل من الشجرة ؟! .. لست صاحب التشريف بهذا المقام المنيف ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله ، فلعله يشفع لكم عند ربكم .
قال التلميذ : فهل يذهبون إلى إبراهيم ، فيجيبهم ويشفع لهم ؟
قال الأستاذ :
يذهبون إليه حقاً ، ويقولون : يا خليل الله استفتح لنا الجنة ، فيقول : معتذراً لست صاحب تلك الدرجة الرفيعة التي تؤهلني لما تطلبون . .. يقولون : ولكنّك خليل الله ؛ ألم يرفع ربك مقامك حين قال : " واتخذ الله إبراهيم خليلاً " ؟! .. فيقول : بلى : كنت لله خليلاً ، ولكنه سبحانه لم يكلمني ولم أره . إنما كان ذلك عن طريق سفيره جبريل .
يقولون : فماذا نفعل ، وإلى من نذهبُ؟ .. فيقول إبراهيم الخليل : اعمدوا إلى موسى ، فقد كلمه الله تكليماً دون وساطة ، واصطفاه على الناس برسالاته وبكلامه ، فأنا وراءه في المنزلة ، ووراءَ منْ وراءه .
قال التلميذ : وهل يذهبون إلى موسى ، ويسألونه أن يشفع لهم بدخول الجنّة ؟ .
قال الأستاذ : لقد ذهبوا ، وسألوه الشفاعة ، وذكّروه بمكانه من الله تعالى .
قال التلميذ : فبم أجابهم ؟ هل شفع فيهم عند الله تعالى ؟
قال الأستاذ :
أجابهم بما أجابهم به من قبلُ آدمُ وإبراهيمُ : لست بذلك المقام الذي يؤهلني لما طلبتم ، فاذهبوا إلى عيسى بن مريم ، فإن كان الله قد كلّمني فهو كلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه.
قال التلميذ : فما تقصد - يا أستاذ – من قول موسى : إن عيسى كلمة الله وروح منه؟ .
قال الأستاذ :
أما كلمته فقد أوجده دون أب بكلمة " كن " وهذا أمر بديع عجيب . خالف فيه سبحانه سنّتَه ليكون عيسى حجة الله على عباده ، كما جعله يتكلم وليداً .
وأما روحُه فقد جعله ذا روح وحياة دون ماء يجري في رحم أمه ، وأحيا به الموتى فكلموا الناس .
قال التلميذ : فهل يتوسط لهم ، ويسأل الله تعالى أن يفتح لهم الجنّة ، وينقذهم من شدّة الموقف؟
قال الأستاذ : لا ؛ إنما يجيبهم بما قاله لهم آدم وإبراهيم وموسى : لست أهلاً لتلك الدرجة الرفيعة ، إنها ليست لي .
قال التلميذ : فإلى أين يذهبون ؟ وعلى من يُعَوّلون ؟
قال الأستاذ :
وهل هناك غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لقد دلّهم عليه عيسى عليه السلام قائلاً : إنه الشفيع المشفـّع ، صاحب لواء الحمد والمكانة السامية التي لا يرقى إليها أحد . إنه من كلم الله في السموات العلا حين عرج إليها ، ورأى نوره سبحانه ، فأين الأنبياء منه ، وإن عَلَوا ، والمرسلون ، وإن سَمَوا ؟!
قال التلميذ :
فماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يذهبون إليه ، يستشفعون به ، ويستفتحونه ؟ .
قال الأستاذ : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا لها ، أنا لها .
وينطلق إلى مقدمة العرش ، ويسجد لله سبحانه ، ويفتح الله تعالى عليه بمحامد يحمد بها الله تعالى ، لم يفتح عليه بها من قبل . يقول سبحانه وتعالى : قم ؛ يا محمد ؛ واشفع تُشَفع ، وسل تعطه ، واطلب يُستجب لك .
قال التلميذ : يا أستاذي الكريم ؛ لِمَ لمْ يدلهم الأنبياء عليه ابتداءً ؟.
قال الأستاذ :
أحسنت يا بني ، إنك لبيب أريب ، سألتَ سؤالاً يدل على ذكاء وبُعد نظر ، إن تعليل ذلك من جوانب عِدّة ، منها :
أولاً : أن الموقف عظيم ، وأنهم – وإن كانوا أنبياء ورسلاً عظاماً – فلكل درجته ومقامه الذي يقف عنده لا يتعدّاه .
ثانياً : أن كل واحد منهم حين يقدّم غيره إنما يُظهر فضله وعلوّ مكانته بما اختصّه الله به .
ثالثاً : أن الحكمة في إلهام الناس سؤالَ آدم والبدء به ، ثم الانتقال إلى مَن بعدَه ، واعتذار كل منهم بأنه ليس أهلاً لذلك إظهارُ كمال شرفه صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل . إذ لو جاء الناس إليه أوّلاً ، وأجابهم ، وشفع فيهم ، لم يظهر كمال التمييز . إذ كان احتمال أن هذا الأمر له ولغيره من الرسل . فلما تأخر كلٌّ عن ذلك ، وتقدم هو له عُلم أنه السيّد المقدَّم صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : ويُحتمل أنهم علموا أن صاحب الشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على سبيل التدريج إليه ، وإظهار فضله .
خامساً : أن الأخير وإن كان أفضل فمن الخير تقديم الأجداد والآباء على الأبناء.
سادساً : لإظهار أهمية الموقف وفضل الشفاعة ، فإن الناس لو نالوها مباشرة لم تظهر أهميتُها وعظيمُ أثرها .
قال التلميذ : إيهِ يا أستاذي الكريم ؛ إني لمتشوق لمعرفة ما يحصل بعد ذلك .
قال الأستاذ : حينئذ يرفع الرسول الكريم رأسه ويسأل الله تعالى أن يجوز الناس الصراط إلى الجنة.
قال التلميذ : وما الصراط يا استاذي ، وما أهمية ذلك ؟
قال الأستاذ :
إنه الجسر الذي ينصب فوق جهنم يقطعه الناس إلى الجنة ، فأما من ثقلت موازينه فقد أفلح ، وأما من خفت موازينه فقد سقط في جهنم ، والعياذ بالله .
قال التلميذ : فكيف يجوزه الناس يا أستاذ ؟
قال الأستاذ : حين يُنصب الصراط تقف الأمانة عن يمينه ؛ والرحم عن يساره – لعظم أمرهما وكبير أثرهما – يُصَوّران شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى ... فمن أدّى الأمانة إلى أهلها ، وكان عفّ اللسان ، طاهر القلب ، نقيّ السريرة ، يؤدي فرائضه ، ويعمل بما أمر الله تعالى ، وينتهي عن نواهيه ، يعين على نوائب الحق ، ويساعد المحتاجين ، ويكف أذاه عن الناس . ومن كان يصل رحمه فبرّ أباه وأمه ، وأحسن إلى إخوته وأهله وعشيرته ، وعفا عمّن ظلمه ، ووصل حبال من قطعه جاز الصراط ، ووصل إلى الجنّة . ومن كان خلاف ذلك هوى في نار جهنم .. نسأل الله العافية .
قال التلميذ : فكيف يمرّ الناس على الصراط؟
قال الأستاذ :
أحسنتَ يا بني في سؤالك هذا ... يمر الناس على الصراط حسب أعمالهم ، فمن كان وليا لله ، مقيماً لشعائر دينه ، مجاهداً في سبيل الله ، باع الدنيا ، واشترى الآخرة جاز الصراط كالبرق – طرفة عين – وهؤلاء هم الصفوة المختارة الذين يمرون دون أن يشعروا أنهم مروا لسرعتهم . فما أكرمهم على الله ؟!.. ثم تأتي الفرقة الثانية ، فيمرون على الصراط سرعةَ الريح ... ثم تأتي الفرقة الثالثة ، فيمرون على الصراط سرعةَ الطير ... ثم تقل المراتب والأعمال ، فيكون المرور على الصراط مناسباً لأعمالهم .
قال التلميذ : وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ؟
قال الأستاذ : إنه عليه الصلاة والسلام قائم على الصراط يدعو الله النجاة لأمته قائلاً : ربِّ سلّمْ سلّمْ ، والأنبياء تقول مثل هذا همساً . لهول الموقف وشدّة وطأته . حتى تعجز أعمال العباد .
قال التلميذ : فماذا بعدُ يا أستاذُ ، أرجو أن توضح أكثر .
قال الأستاذ : لا يبقى سوى العاصين ، وعلى جانبي الصراط كلاليب من حديد معقوفة الرأس ، فمن كان قليل العصيان سار سيراً حثيثاً ، ولربما أصيب بأذىً ، فخدشته الكلاليب ، لكنه ينجو من النار ولهيبها . ومنهم من يكون بطيئاً في سيره ، وبعضهم لكثرة ذنوبه لا يستطيع السير إلا زحفاً والكلاليب تأكل من جسمه وتزعزع أركانه، لكنّ الله ينجيه ، فهي لا تعلق إلا بمن أُمرت به ، فتلقيه في أتون جهنم .
أما الجبابرة والمتغطرسون من أمة الإسلام فتلقي بهم الكلاليب في قعر جهنم والعياذ بالله .. أتدري متى يصل الذي تعلق به الكلاليب فتكردسه إلى قعرها ؟! بعد سبعين سنة من سنواتنا هذه ، نسأل الله العافية .
أما الكفار فيُؤخذون مكبلين إلى جهنم ليخلدوا فيها أبد الآبدين ....
قال الأستاذ والتلميذ :
اللهم إنا نسألك الجنة ، وما قرّب إليها من قول أو عمل ،
ونعوذ بك من النار ، وما قرّب إليها من قول أو عمل .
اللهم ارحمنا ، فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا ، فإنك علينا قادر .
رواه مسلم - رياض الصالحين / باب الأمر بأداء الأمانة 


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثالثة عشرة
"
  العبد الصالح جُرَيج   "
 

روى هذه القصة أبو هريرة رضي الله عنه إذ سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم . فمن جريج هذا ؟
أنصت الرجال المتحلقون حول حبيبهم المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وأرهفوا السمع ، وحبسوا أنفاسهم ، حين بدأ يحدثهم عن جريج العابد هذا ، فقال :
إن جريجاً كان رجلاً راهباً في صومعة له يعبد الله ، ويتبتل إليه ، انقطع عن الدنيا ، وأخلص وقته ونفسه لله تعالى ، وكانت صومعته على صخرة عالية في الجبل ، وتحتها كهف يأوي إليه أحد رعاة البقر ، فيَقيل ، ويُمسي .
جاءت أم جريج مرة وهو يصلي ، فدعته ، وكان عليه أن يجيب دعاءَها ، فقال في نفسه : أيهما أفضل يا ترى ؟ الاستمرارُ في الصلاة وأنت واقف بين يدي الله تعالى أم قطع الصلاة وإجابةُ دعوة الأم؟!! لم يكن يدري ما يفعل ... إلا أنه آثر إتمام الصلاة رغبة في تمام الثواب ... وسوف يفرغ لأمه يبرُّها ... نعم لن يضيع الصلاة ؛.. وإرضاء الوالدة بعد ذلك أمر يسير ، وهو بذلك ينال أجرين ! هكذا فكر جُرَيْج ..
وعادت الأم تنادي : يا جريجُ؛ رُدّ عليّ يا بني ؛ أنا أمك أناديك ، فهلمّ إليّ .. إجابتي خير لك في الدنيا والأخرة ...
لم يكن جريج يدري أن ترك النوافل والمبادرة إلى إجابة والدته أفضل القرُبات عند الله ، فعزم أن يستمر في الصلاة .. ولا شك أن الله يعلم أن جريجاً يحب والدتَه ، ويودّ بـِرّها ، ولكنّه في الصلاة ! - والصلاة وقوف بين يدي الله – وهل أفضل من الوقوف بين يدي الله سبحانه ؟!
إنه ليس عاقـّاً ، وسيجيب والدته حين يفرغ من صلاته ... هكذا اجتهد للمرة الثانية . وحين نادته مرة ثالثة وأخيرة فلم يردّ وآثر الاستمرار في الصلاة ، فأبطا عليها ، بل لم يجبها قالت حزينةً دامعة العينين متأثرة بصدّه -المؤقت لها – وفي سَورة غضبها : لا أماتك الله يا جُرَيجُ حتى تنظر في وجه المومسات .
وجه المومس ليس فيه طهر ولا نقاء ! دنس الزنا يُذهب رُواءَه ، ويُطفئ نورَه ، ويترك عليه مسحة من سواد تنفر منه النفوسُ الصافية والقلوبُ المؤمنة ، وتستعيذ منه الأرواحُ الشفافة والأفئدةُ الطاهرة.... وأين يرى المومساتِ وهو لا يدري بما يجري حوله ؟ ! إنه لا يخرج من صومعته إلا لِماماً .
لم تكن الأمّ تريد أن يُصيبَ ولدَها مكروهٌ ، ولكنْ سبق السيفُ العَذَلَ ، وسبق لسانُها إلى الدعاء . وكأن دعاءها قد وجد أذناً من الله سميعة ... انصرفت الأم بعد أن دعتْ ... ونسيتْ .. ولكنّ الله لا ينسى ، ولم يكن لينسى دعاء الأم ، فلا بد أن يعاقَبَ العاقّ جزاءً وفاقاً ... ولكنْ كيف؟!
تذاكر بنو إسرائيل جُريجاً ، وعجبوا من كثرة عبادته وشدّتها ، وقَصَده الناسُ من كل حَدَب وصوب، فذاع صيتُه ، وتدافعوا إلى صومعته يلتمسون بركتَه ، ويسألونه أن يدعوَ لهم .
وكانت امرأة بغيّ يُتمثّل بحسنها ، قالتْ : إن شئتم لأفتِنَنّه !.
قالوا لها : لا تستطيعين ، إنه لا يلتفت إلى النساء .
قالت متحدّية : ومنذا يقف أمام جمالي وإغرائي ؟!
قالوا : إن كنت واثقة بنفسك فافعلي .
تزينت له ،وحملها الشيطان على جناح الفتنة إلى صومعة جُريج ، وجهدتْ في التعرّض له ، فتمنّع عليها ، وجدّتْ في إغوائه ، فاستعاذ بالله منها ، حاولت بكل فتنتها ومكائدها أن يسقط في مصائدها فارتدّت خائبة ، فلما شربت من كأس اليأس وسقطت في تحديها - فليس كل الناس سواء = نزلت إلى راعي البقر في كهفه أسفل الصومعة ، فمكّنته منها . .. أسلمت راعي البقر نفسها وهو الذي لايأبه له أحد ، ولا يملأ عينَ من يراه ، وهي الجميلة الفاتنة التي يخطب الكبراء ودّها ويركعون تحت قدميها ، ويبذلون أموالهم كي ترضى عنهم فيظفروا بها ! إن تمنّع الراهب أحبطها وجرح كبرياءها ، فارتمت عند أول لاقط لها حنقاً من الراهب وشعوراً أن هناك من يريدها ، ويسارع إليها ..
إن المومس حين زنا بها الراعي حملت منه ، ثم ولدت صبياً يجهل الناس أباه ، فمن أبوه يا ترى ؟ لم تذكر المرأة اسم الراعي ، فهو أبو ابنها الذي تحبه وأباه ، ولا ترضى العقاب للراعي الذي ارتبطت به ، فأثمر هذا الارتباط الخاطئ ولداً . إنها تريد إبعاد التهمة عنه لتوقع بمن مرّغ كبرياءها ، ولم يلتفت إلى إغرائها وفتنة جمالها . .. ووجدت الفرصة سانحة ، فقالت أمام الملك : إنه جُريج ؛ ذلك الذي يلبس مسوح الرهبان ، ويتستر وراء سياج العفاف ! !..
وأبلس القوم ... جريجٌ يفعل هذا ؟! أمن المعقول أن يكون ظاهره غير باطنه؟! وهل يمكن لهذا الرجل الصالح أن يقع في الزنا ؟! ... ويتهامس القوم غير مصدّقين .
قال الملك مستغرباً : أصاحبُ الصومعة؟!
قالت : نعم ؛ ألم يرني أحدكم تلك الأيام أختلف إلى صومعته؟
لا شك أن بعضهم رآها تقصد الصومعة في أوقات مختلفة .. لا بل تقصد مما تحت الصومعة إلى الراعي ... وأنّى لهم أن يعرفوا الحقيقة ؟
ثار الناس وتصايحوا .. وغضب الملك ، وازداد غضبه .. لماذا ؟ لأنه فوجئ بمن يزني وهو متزيّ بزيّ الصالحين . ..
وفي سورة غضبه أمر أتباعه بهدم الصومعة ، وجر جريج مهيناً إلى مجلس الملك . ففعلوا ، وربطوا يديه بحبل إلى عنقه كما يُفعل بالمجرمين ، وضربوه وأهانوه ...
ومرّ في طريقه على المومسات ، فرآهنّ يبتسمن وهنّ ينظرن إليه في الناس . وصدقتْ دعوةُ أمه فيه ، فقد رآهنّ يشمتن به ، ويهزأن منه ، وكأنّهنّ يقلن في أنفسهنّ : تدّعي الصلاح جهراً ، وترتكب الموبقات سرّاً ؟ فنحن إذن أطهر منك ،،،، سرُّنا كعلانيتنا .
قال جريج متمتماً : حسبي الله ، ونعم الوكيل ... اللهم أنقذني مما أنا فيه ، وأعنّي على برّ أمي .
قال الملك : أعرفتَ ما تزعم هذه المرأة ؟
قال : وما تزعم ؟
قال الملك : تزعم أن ولدها منك .
قال جريج : أنتِ تزعمين ذلك ؟!
قالت : نعم ؛ .. يا ويلها إنها تكذب ، وتصر على الكذب ، وتودّ في سبيل الراعي ونفث حقدها أن ترمي به في المهالك .
قال جريج : أين الصغير ؟
قالوا : هو ذا في حُجرها .
قال : دعوني حتى أصلّي ، فما أقرب الإنسان إلى الله وهو ساجديسترحمُه ، ويستنقذُه ، ويسكب العبرات في حضرته ، ويبتهل إليه سبحانه ، فهو كاشف الضر ، ومنجي الصالحين .
إن الله تعالى بعد أن أخذ بحق أمه وأجاب دعاءَها لم ينسَ عبادةَ جريج ولا صلاحه . وهو سبحانه يعلم مقدار حب جريج أمَّه .. وأنه اجتهد ، فاخطأ . ولعلّ في هذا درساً وعبرة أيما عِبرة . فشاء – سبحانه – إنقاذ جريج ورفع منزلته ، فليس الظلم من صفاته سبحانه جلّ وعلا .
أقبل جريج بعد أن فرغ من صلاته حتى وقف على الطفل ، وطعنه بإصبعه في بطنه ، وسأله على مسمع من الملك وأركان ملكه واثقاً من نصر الله له ورحمته به : من أبوك ؟
وهنا كانت المفاجأة التي وجفت لها القلوب ، وتسمرت لها الأقدام ... لقد أنطق الله الطفل ابن الأيام ، فقال : إنه الراعي ... راعي البقر الذي استغل المكان الطاهر في آثامه ونزَواته ، وخلا بأمه ، فكان الطفل ثمرة الزنا .
وانقلب الأسير حراً ، والمهينُ عزيزاً .
أسف الملك لسوء ظنه بالراهب الطاهر ، وندم على إهانته إياه ، ورغب معبراً عن ندمه هذا أن يعيد بناء الصومعة من ذهب .... صومعة من ذهب؟! .. إن بريق الذهب يُذهب بريق القلوب .
قال : لالا ، لا أريدها من ذهب .
قال الملك : من فضة إذاً .
قال : لالا ، إن لمعان الفضة يحجب الحقيقة عن القلوب .
قال الملك : ممَّ نجعلها إذاً ؟ .
قال جُريج : ردّوها كما كانت ، فهذا أدعى إلى السكينة والصفاء .
إن بهرجة الدنيا تشغَل القلوب ، وتُثقل الأرواح ، وتقيّد النفوس .
ثمّ تبسّم جُريج ... وعجب الحاضرون إذْ تبسّم . لا بدّ أن أمراً ما استدعى الابتسام ...
نعم ، لقد أدرك جُريْج أن الذي أدّى إلى هذا الموقف العصيب الذي كاد يعصف به لولا أن تداركته رحمة ربه دعوةُ الأمّ أن يرى وجوه المومسات .... ولم يكن بدّ ٌ أن يراها .
فدعوة الأم أحقّ أن تُجاب .

متفق عليه
رياض الصالحين ، باب فضل ضعفة المسلمين ، والفقراء الخاملين .
الأدب المفرد للبخاري ص20 الحديث 32
 




















قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الرابعة عشرة
السرابُ الخادع
 

حملت الأم رضيعها ، ودلفت من الباب مسرعة إلى دار والدها ، ففي مثل هذه الساعة من يوم الأربعاء كل أسبوع يلتقي الإخوةُ هناك سويعاتٍ يُعيدون ما انقطع من ذكرياتهم قبل أن يتزوجوا ، ويُضفون على والدَيهم السرور والسعادة حين يجتمعون إليهما ، وهم حريصون على برّهما والإحسان إليهما .
بكى رضيعها بكاء مرّاً ، فهدهدَتـْه وهي مسرعةٌ ، فلم يتوقف عن البكاء ، ناغته ، فارتفع صوتـُه . قالت : فلعلّه جائع ...
انزوتْ ركناً من الطريق ، وجلستْ على حجر رأتْه هناك ، وألقمتْه ثديَها . لقد كان جائعاً وطمآن حقاً ، فلقد سكت ، وانشغل بالرضاع .... نظرت إليه نِظرة الحنان والحب . وهل هناك أشدّ رأفة من الأم على وليدها ؟.... ودعت الله أن يجعله رجلاً صالحاً مهيباً ، يملأ العين ..
قبّلتْه ومسحت على رأسه ، ثم أقبلتْ على الطريق ترصد المارين ، وتسلي نفسها إلى أن يشبع ولدها .
وفجأة رأت فرساً فارهة ، أقبلتْ تخُبّ بصوت رتيب موسيقيّ ، جسمها متين ، كأنه قطعة من حديد ، ضخمة كأنه جدار عال ، يمتطيها رجل بدَتْ عليه أماراتُ الصحة والعافية ، وسيم الطلعة ، نضر الوجه ، يلبس ثياباً جديدة تزيده بهاءً وجمالاً .
قالت وهي تنظر إليه ، وقد بهرها ما رأتْ : اللهم اجعل ابني مثل هذا .
يا للعجب ؛ لقد ترك الرضيع ثديَ أمه ، وكأنه فهم ما قالت، ونظر إلى الرجل يتفحّصُه ، ويُدير فيه عينيه ، ثم نطق قائلاً : اللهم ، لا تجعلني مثله ... ثم أقبل على ثدي أمّه ، فجعل يرضع .
تعجّبت الأم حين سمعت ابنها يتكلم ، إنه لم ينطق بغير هذه الكلمات . ثم داخَلها الشكُّ : أحقاً ما سمعته أم إنها حالمة ؟! وهل ينطق ابن أشهر بكلمات الكبار ، ويفصح عمّا يريد ؟ ...إنه لأمر عجاب !.
وعادَتْ تنظر إلى الناس ، وقد نسيت أو تناست ما سمعت . فرأت رجالاً يضربون فتاة ، ويقولون : زنَيْتِ ، سرقـْتِ . والناس مجتمعون حولها ، لا يرأفون بها .. ومن يرأف بفتاة زانية سارقة؟... وكانت الفتاة حزينة ، باكية ، كاسفة البال ، تشكو إلى الله ظلم العباد ، وتقول : حسبي الله ، ونعم الوكيل .
قالت الأم وهي تنظر متقزّزة ؛ تستنكر أن تزني المرأة الحرّة وتسرق : اللهم لا تجعل ابني مثلها .- وهذا الدعاء من أم تود الخير لولدها فطْريٌ في كل امرأة ... يا سبحان الله ؛ إن الطفل يترك الرضاع ، وينظر إلى الفتاة يتفحّصها ... ثم يقول : اللهم اجعلني مثلها .... ثم يعود إلى التقام ثدي أمه .
أما الأم الآن فقد تيقـّنَتْ أن ابنها الصغير يتكلم ، وأنه هو الذي دعا الله أن لا يكون مثل ذلك الرجل صاحب الفرس . فسألتْه : يا بنيّ لِمَ رفضْتـَه ، ورضيت أن تكون كهذه الفتاة ؟ !.
وهنا علّل الرضيع بأوضح كلام ، وأفصح بيان :
يا أماه ؛ أما الرجل فهو جبّار متكبر ، يرى الناس دونه ، ومن كان هكذا فالنار مأواه . فهل تريدين أن أكون مثله ، وانتهي إلى ما سينتهي إليه ؟!!
وأما الفتاة فطاهرة اليد عفـّة النفس ، ليست بزانية ولا سارقة ، اتهمها الناس بذاك زوراً وبهتاناً ، فهي تنفي عن نفسها ما يَشينُها ، وهل تفعل الحرّة المؤمنة ما يُسيء إليها ؟!!
لا ينبغي – يا أماه – لذي العين البصيرة والعقل الواعي أن يُؤخذ بالمظاهر الكاذبة ، وأن يخضع للادّعاءات الضالّة ، إنما عليه أن يتحرّى الصدق كي يكون على هدىً مستقيم .

متفق عليه
رياض الصالحين ، باب ضعفة المسلمين والفقراء الخاملين

 

















 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الخامسة عشرة
رب رحيم
 

بعض الناس يعيشون دون وازع من دين يردعهم عن الوقوع في المعاصي ، هؤلاء عشعش الشيطان في قلوبهم ، وباض وفرّخ ، فلا يستطيعون الخروج من مستنقع الفساد ، ولا يريدون الخروج منه .
فليست قصتنا عن هؤلاء ، فإن انتقل بعضهم إلى معسكر الإيمان فهم قليل .
أما هذه القصة فعن المؤمن الذي يحب الله ويخافه ، ويبذل جهده لإرضائه ، يأتمر بأمره ، وينتهي عن نواهيه ، فإن زلّ وأذنب ، فالتوبة تمحو ذنبه ، وتغسله من درنه ، فيلحق بركب الصالحين .
فقد ذكر الرسول الكريم محمد صلوات الله عليه وسلامه أن رجلاً مؤمناً وقع في إثم ، فأحس بالضيق ، وندم على ما فعل ، وأسف على ما فرّط في جنب الله ، فماذا يفعل؟
إن المسلم حين يكبو به فرس إيمانه ، فيقع في حفرة لم ينتبه إليها ندّت عن درب الإيمان سرعان ما يلملم نفسه ، ويستعين الله ، ويتوب إليه من ذنبه ، سرعان ما يتجه إلى خالقه يذرِف دموع الندم ، ويعاهد الله أن لا يقع مرة أخرى فيما يغضب الله تعالى ، ويسأله الصفح والغفران ، ويرجوه طيّ تلك الخطيئة ، بل التجاوزَ عنها ، بل محوَها من سجلـّه كي يعود نظيفاً ، وأن يبعد عنه وسائل الغواية ، ويهديَه سبيل الرشاد ، يلتجئ إليه وحده ، فهو غفـّار الذنوب ، ستـّار العيوب .
يا رب اغفر ذنبي ، واستر عيبي ، وارحم ضعفي بقوتك ، وتجاوز عن ذنبي بحلمك وعفوك ، أنت ربي تباركت ، وتعاليت .
ويرتفع الدعاء مصحوباً بالندم والاستغفار ، مخترقاً الحجُب إلى عالِم الغيب والشهادة ليقف أمام السيّد المطلق يعلن توبة َصاحبه وإنابتـَه .
ويفرح الله تعالى بتوبة عبده ، ولَفـَرحُه – سبحانه – أشد من فرح الرجل الذي عادت إليه ناقتـُه - في صحراء مترامية الأطراف ، فأيقن بالهلاك – فعادت إليه الحياة .
فقال تبارك وتعالى " أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنْب ، ويأخذ بالذنب ، فغفر له "
وعاد الرجل المؤمن ، فضعف أمام مُغرِيات الحياة ، وزلت قدمه في حفرة الخطأ ... سقط وهو يعلم أنه نكث العهد الذي قدّمه أمام توبته .. لم ييئس أمام ضعفه وضغط الماديات والمغريات حوله ، فأحس بالندم الحقيق ، وتمسّك بالعُروة الإيمانيّة الوثقى ثانية ، وبكى ، ولجأ إلى الركن الركين والملاذ الحصين ، يسأله العفو والغفران وستر العيوب والنقصان .
وارتفع الدعاء إلى الطبقات العلا يستمطر الرحَمات ممن بيد النواصي ، يعلن توبة صاحبه وإنابتَه .
فيقول الله تعالى – سبحانه من رب رؤوف رحيم عطوف !- : أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنـْب ، ويأخذ بالذنـْب ... فغفر له " .
خُلق الإنسان من عَجَـل ، فكان نقصُه واضحاً . ولا يظهر الخطأ إلا من النقصان . فإذا لاذ الضعيف الناقص بالقوي الكامل ارتفع عن سفساف الأمور ، ودنا من العصمة والثبات ... ولكنّ الضعيف إن فتر عن المتابعة – وهذا دأْبه – عاد إلى الخطأ . فإن وقع فيه نبّهَتْه فطرتُه الإيمانيّة التي فطره الله عليها ، فعاد إلى الصواب يستغفر الله ويرجو عفوَه ، فهو – الإنسان – دائم العودة والإنابة ، ينزع إلى خالقه يحتمي بحِماه ، ويرجو فضله ، فيجيبه الله تعالى بحنوٍّ وعطف وحنان : " أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ،ويأخذ بالذنب ، أقـْبـَلـُه إن عاد ، وأدعوه إن بَعـُد ، أغفر زلاتِه ، وأجيبُه إن دعاني ، قد غفرتُ لعبدي ، فليفعلْ ما يشاء .

متفق عليه / رياض الصالحين / باب الرجاء


















القصة السادسة عشرة 
الأسى لا يُنسى

حين ازداد طغيان فرعون وأذاه على بني إسرائيل وبالغ موسى وهارون عليهما السلام في النصح والتذكير لآل فرعون وأظهار المعجزات الباهرات التي تحمل العاقل على تصديقهما والإيمان بدعوتهما ، ثم وجدا القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ موسى يدعو عليهم ، وهارون معه يُؤمّن على دعائه .
ومِن حق من يدعو على الآخرين أن يذكر أولاً سبب الدعاء عليهم لئلا يتوهم السامع أن الدعاء دون سبب ولا ذنب ، ولهذا قدّم موسى عليه السلام السبب والجناية التي استحق فرعون وقومه والملأ منهم دعوة نبيّهم بالهلاك " وقال موسى : ربَّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ، ربنا اطمسْ على أموالهم ، واشدُدْ على قلوبهم ، فلا يُؤمنوا حتى يَرَوُا العذاب الأليمَ " فجاءهما الجواب السريع " قد أُجيبتْ دعوتُكما ، فاستقيما ، ولا تتّبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون " وهنا ينبهنا الله تعالى أن العبد المستقيم على طاعة ربه مستجاب الدعوة . فلا يفرّطْ في التزام شرع ربه ، ولا يتبعْ طرق الغواية والضلال .
تفتّحت – إذاً- أبواب الدعاء ، فأوحى الله إلى نبيه موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ليلاً ، وأن يعبر بهم البحر ، ويذهب بهم إلى أرض فلسطين . فتجهّز موسى وأخوه ومن معهما من المؤمنين وبقية الإسرائيليين دون أن يعلم بهم الأقباط وعيونُ فرعون ، وساروا متجهين إلى البحر الأحمر – بحر القلزم – وأخذوا يجدون السير مخافة أن يدركهم فرعونُ وجنوده . فلما كان الصباح نظر الأقباط ، فوجدوا ديار بني إسرائيل قد خلت منهم ، فلم يبقَ فيها ساكن ، فأخبروا فرعون ، فجهز جيشاً جرّاراً ، وخرج على عقِبهم ، وصمم على استئصال بني إسرائيل ، فأدركهم في اليوم الثاني مع طلوع الشمس .
وكان بنو إسرائيل قد نظروا خلفهم فارتاعوا إذ رأوا فرعون بجيشه العرمرم يسرع نحوهم ، فأيقنوا بالخطر والهلاك ، وضجّوا بالصياح والعويل ، وقالوا : يا موسى " إنا لمُدرَكون " فأجابهم إجابة الوائق بربه المعتمد عليه " كلاّ ؛ إن معي ربي ، سيهدين "
هنالك أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى أن يضرب البحر ، فضربه بعصاه ، فانشقَّ عن طريق يابسة بقدرة الله تعالى ، وارتفع الماء على جانبيه ارتفاع الجبل العظيم ، وكأنهما جداران مبنيان من الزجاج القوي يمنعان الماء من ورائهما ! " فكان كل فرق كالطود العظيم " .
ورأى بنو إسرائيل هذه الآية العظمى فجاوزوه على انني عشر ممراً – فهم اثنا عشر فخذاً . وكان موسى وأخوه عليهما السلام وراء قومهما يشجعانهم على الإسراع في العبور – وهذا دأب القائد الرحيم ، الذي يحافظ على قومه ، ويهتم بأمرهم ، ويسعى لحمايتهم والتأكد من نجاتهم .
كان فرعون قد وصل بجنوده إلى شاطئ البحر فأسرع إلى الممر يتبع بني إسرائيل . وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود كما كان ماءً يمنع الجيش الزاحف أن يصل إليهم . وأراد الله تعالى أمراً آخر ، أراد سبحانه أن يُغرق فرعون وجنوده ليكونوا عبرة لمن يعتبر . فأوحى الحق سبحانه إلى نبيه موسى أن يترك البحر على حاله " واترك البحر رهواً - أي ساكناً – إنهم جندٌ مُغرقون "
قال تعالى " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ،
فأتبعهم فرعونُ وجنودُه بَغياً وعَدْواً ،
حتى إذا أدركه الغرقُ قال :
(
آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ،
وأنا من المسلمين ) " .

قال جبريل عليه السلام مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا رسول الله ، لو رأيتني حين سمعت فرعون يقول ما قال ، وأنا آخذ من وحل البحر ، فأدُسّه في فمه مخافة أن تدركه رحمة الله !!!
وما فعل جبريل ذلك إلا كُرهاً للطاغية المتجبر ، وحنقاً عليه ، فقد أذاق المؤمنين ويلاتٍ ، وويلات ، قتل ذكورهم ، واستحيا نساءهم ، وسخّرهم لخدمته وخدمة أعوانه ، وعاملهم معاملة العبيد ، فتن المسلمين وحاربهم ، ونشر الكفر والفساد ، واّدعى الألوهيّة ، فخاف جبريل أن يقبل الله إيمانه دون أن ينال عقابه .
وهنا سؤال لا بد من طرحه :
إن فرعون تاب ثلاث مرات في هذا الموقف : إحداها قولُه " أمنتُ "
وثانيها قولُه " لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل "
وثالثها قوله " وأنا من المسلمين "
فما السبب في عدم قبول التوبة والإنابة إلى الله ؟
والجواب : سبق السيف العذل ! فقد جاء إيمانُه وهو يُغَرغِر حين صار في حكم الميت أو كادَ ، فهذه توبة اليائس ، وهذا الإيمان إيمان المضطر المكره على الإيمان ، وفي هذه الحال لا تكون التوبة صادقة ، ولا الإيمان مقبولاً ، لأنه إيمان المُكره اليائس من الحياة الذي عاين عذاب الله . " فلم يك ينفعهم إيمانُهم لما رأوا بأسنا " وهذا كمن صدر عليه الحكم بالإعدام ، لا ينفعه الندم ولا الاعتذار .
كما أن التوبة كانت ليُتوصل بها إلى دفع البليّة الحاضرة ، والمحنة النازلة ، ولم يكن فيها إخلاص ، إنما هي ضرب من النفاق ، ولهذا جاء الجواب بالتوبيخ " آلآن !؟ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ؟ " وهلاّ تبت قبل هذا ، ورجعت إلى ربك قبل أن يحيط بك الهلاك ، وهلاّ آمنت قبل هذا الزمان .
1-
رواه الترمذي في كتاب التفسير /باب من سورة يونس
ج/ 4. ص / 2872- صحيح سنن الترمذي ج/ 3 ص/61


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة السابعة عشرة
(إنه يتصدّق)
 

قال التلميذ لشيخه:
ما المقصود – يا سيدي – بقوله صلى الله عليه وسلم : " ما نقص مالُ عبدٍ من صدقة " ؟ أليس يخرج من يديه ؟ فكيف لا ينقص؟!
قال الشيخ :
لأن الله سبحانه وتعالى يبارك له في أصل رزقه ، ويوسّع عليه ، وقد يحفظه من مصيبة كاد يقع فيها فيَصرِف للخلاص منها أكثر مما تصدّق به بكثير .ألم تقرأ قوله صلى الله عليه وسلم :" ما مِن يوم يصبح العبادُ فيه إلاّ ملَكان ينزلان ، فيقول أحدُهما : اللهم أعط منفقاً خلَفاً ، ويقول اللآخر : اللهم أعط ممسكاً تَلَفاً . ؟
قال التلميذ : وممّ يقبل الله تعالى الزكاةَ والصدقةَ؟
قال الشيخ : إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، من كسْبٍ حلال ومالٍ حلالٍ .
قال التلميذ : أوضح لي- يا سيدي- أكثر . كيف يُرْبي اللهُ الصدقات ؟.
قال الشيخ :
لقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم إنماء الصدقة وزيادتَها للعبد كرَجلٍ ولدتْ له فرسُه مُهراً ، فهو يعتني به ، يغذوه وينظفه ، حتى يصير ضخماً مثل الجبل ، ويرزقه الله تعالى من حيث لا يحتسب .
قال التلميذ :
فكيف يثيب الله تعالى من تصدّق بنصيبٍ من حصاد أرضه – مثلاً - ؟
قال الشيخ : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك في قصة المزارع الكريم .
قال التلميذ : وما قصة المزارع الكريم يا شيخي ؟
قال الشيخ :
بينما رجل يمشي في أرض لا ماء فيها ولا زرع إذ سمع صوتاً ، فاتجه يميناً وشمالاً ، يبحث عن مصدره ، فلم يجد أحداً ، ثم عجب حين اتضح له أن الصوت إنما يسمعه من فوقه ، وليس أعلاه سوى السماء بغيومها التي تسوقها الرياح. فأرسل بصره ناحية السماء ، فلم يجد أحداً ،،، لا طيراً ولا بشراً ! بل هو يسمع صوتاً يفهمه .. إنه يقول : اسق حديقة عبد الله ، الرجل الصالح ... يا سبحان الله ؛ إن الإنسان لا يطير ، وإن الطير لا يتكلم بلسان بشري مبين ! إذاً فهو ملَك من ملائكة السماء ،،، فماذا يفعل ؟!
أحدّ بصرَه وتابع مسيرة السحاب ، فرأى سحابة تنفصل عن جمعها ، وتنطلق إلى مكانٍ ما ، فتبعها الرجل . ثم انهمر المطر منها فاجتمع إلى أرض ملساء ، ذات حجارة سوداء صمّ ، لا ينفد الماء إلى باطنها ، تميل إلى منخفض بدأ الماء يسيل نحوه ، ثم ينطلق فيه إلى أرض إلى جانبها أسفلَ منها ، فتتبّع الماءَ ، فإذا هي حديقة غنّاء مملوءةٌ خضرةً وفاكهةً ، ورجلٌ يحوّل الماء هنا وهناك ، ويسقي أرضه .
قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ردّ صاحب الأرض : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
قال الرجل العابر : ما اسمك يا أخا الإيمان ؟
قال صاحب الأرض : أنا عبد الله ... وذكر له الاسم الذي سمعه الرجل العابر في السحاب .. ولكن لِمَ تسألني عن اسمي ؟!
قال له عابر السبيل : لقد سمعت عجباً ورأيت عجباً .
قال صاحب الأرض : ما الذي سمعتَه عجباً ، ورأيتَه عجباً ؟
قال عابر السبيل : إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول لمن معه : اسق حديقة عبد الله الرجل الصالح ، فبالله عليك ؛ ما الذي تصنعه حتى أرضيت ربّ السماء؟!.
قال صاحب الأرض : أمَا وقد اطّلعْتَ على فضل الله عليّ فاعلم – يا أخي – أنني حين أقطف ثمار الأشجار ، أو أحصد زرع الأرض ، فإنني أقسم ما يخرج منها ثلاثة أقسام :
أتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي الثلث الثاني ، وأردّ في الأرض ثلثه الأخير .
قال عابر السبيل : بهذا حُقّ لك التكريم في الدارين ... فطوبى لك يا أخي ، وبارك الله لك فيما صرفْتـَه في دنياك ، وما ادّخرتهُ لآخرتك

رواه مسلم
رياض الصالحين / باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير .
 








قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثامنة عشرة
-النبي الرؤوف-
 

من أعظم النعم على الرجل " المرأة الصالحة" ، تُعينُه على نوائب الحق ، وتخفف عنه متاعب الحياة ، وتجلو عنه أحزانه ، وتهتم براحته ، وتشد أزره .
أما إذا كانت المرأة غير ذلك فهي عبء ثقيل يزداد إلى أعباء الحياة .
هذه السيدة عائشة رضي الله عنها تجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله :
كان وقع معركة أحد شديداً عليك وعلى المسلمين ، قُتل فيها عدد كبير من أصحابك الكرام ، وعلى رأسهم عمك الحمزة رضي الله عنه ، وكُسرت رباعيتُك ، وشُجّ رأسك ، فما الذي أهمك فيها أيضاً ؟
قال صلى الله عليه وسلم : عدم امتثال رماة المسلمين أمري ، فغادروا أماكنهم على الجبل ، فانكشفت ظهور المسلمين ، وانقلب النصر هزيمة ، وانتفخت أوداج أبي سفيان بن حرب – وكان مشركاً- فنادى بأعلى صوته : اعلُ هُبَل، اعلُ هُبل ..... لنا عُزّى ولا عُزّى لكم .
قالت : فماذا كان ردُّك يا رسول الله ؟.
قال : أمرت عمر بن الخطّاب أن يُجيبه على الوتيرة نفسها ، فقال : وماذا أقول له يا رسول الله ؟
قلت له مواسياً جراحَ المسلمين أبُثّ فيهم روح التفاؤل : نادِ بأعلى صوتك : الله أعلى وأجل ... الله مولانا ولا مولى لكم .
قالت عائشة : فهل مرّ بك يا رسول الله يومُ أشدّ من يوم أحُد؟
قال صلى الله عليه وسلم : نعم ؛ إن أشد الآلام يحس بها الإنسانُ حين يكون أهلُه وأحبابُه ، وعشيرتُه وأقرباؤه – الذين ينبغي أن يكونوا سنَدَه ونصيرَه – أعداءً يُؤذونه ، ويؤلبون عليه الناس .
قالت عائشة : أوَ فعلوا ذلك يا رسول الله ؟
قال : نعم ، ولا أنسى ما فعلوه يوم العقبة ، قبل أن ألتقيَ الأنصار رحمهم الله ، وكتبهم في عليين . لقد كنت أدعو الناس ، فهذا يُكذّبني ، وذاك يستمع إليّ ، ثم يُعرض كأنه لم يسمع ، وذاك يُجيبني مشترطاً أن يكون له الأمر من بعدي ... وكنت أتنقل بين جميع المشركين ، ومن ورائي عمي - أبو لهب – وغيره يقولون : لا تسمعوا لهذا الصابئ ، فإنه يُفرّق بين الأب وابنه ، والأخ وأخيه ، وأحياناً كثيرة ينعتونني بالجنون ، وأحايين بالسحر ، ومرة بالكهانة ، وأخرى بالشعر .
قالت عائشة : لك الله يا رسول الله ، كم عانيت في سبيل الله .!
قال : وأشد من هذا فعله إخوة( عبد يا ليل ) وهم من سادة ثقيف حين عرضت نفسي – في الطائف – عليهم ، فقال الأول ساخراً : لئن كان الله قد أرسلك إلينا لأمزقنّ أستار الكعبة .
وقال الثاني مستهزئاً : أما وجد اللهُ من يرسله غيرك ؟!
وقال الثالث مدّعياً العَجَب من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم : والله
لا أكلمك أبداً ، لئن كنت رسولاً – كما تقول – لاأنت أعظم مكانة أن أردّ عليك،
ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك !!
قالت عائشة : فما فعلْتَ يا رسول الله ؟ لعمري ؛ لقد خسروا أنفسهم وأهليهم .
قال : طلبت إليهم أن يكتموا الأمر ، لا يصل إلى قريش ، فيشمتوا بي . فلم يفعلوا ، وأغرَوا بي سفهاءَهم وعبيدهم وصبيانهم . يسبونني ، ويصيحون بي ، ويرجمونني .
قالت : أبَلَغ بهم سَفَهُهُم أن أن يحرّضوا عليك السفهاء والصبيان والعبيد ؟
قال : وأشد من هذا ، فقد ألجأوني إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة ... وهناك دعَوْت ربي قائلاً :
"
اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ؛ أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تَكِلُني ؟! إلى بعيد يتجهّمني أم إلى عدوّ ملّكتَه أمري ؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، ولكنّ عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقَتْ له الظلماتُ ، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غَضَبَك ، أو تُحِلّ علي سَخَطَك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
قالتْ: بأبي أنت وأمي ؛ يارسول الله ، لقد آذوك فتحمّلت ، وأساءوا ، فتجمّلْتَ ، وإلى ربك رغبت ، وما خاب مَن إلى ربه لجأ ، وبكنَفه عاذ ... ثم ماذا يا رسول الله ؟.
قال الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه : هِمتُ على وجهي ممتلئاً همّاً وغمّاً ، فلم أدرِ إلا وأنا قريب من مكة – من قرن الثعالب – فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة أظلتني ، فنظرتُ ، فإذا فيها جبريل عليه السلام . فناداني ، وقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردّوا عليك . وقد بعث لك ملَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم .
ثم ناداني ملك الجبال ، فسلّم عليّ ، ثم قال : يا محمد : قد بعثني الله لأفعل بقومك ما تشاء ، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين – جبال مكة - .
قالت عائشة : فلِمَ لم تأمره بذلك يا رسول الله ، فتستريحَ منهم ومن كفرهم وضلالهم ؟.
قال صلى الله عليه وسلم : ويحك يا عائشة ، إنما بعثت رحمة للعالمين ، لا منتقماً . فأي فضل لي إذا عاملتُهم بمثل ما عاملوني به ؟ ... بل أدعو لهم بالهداية ، وأرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد اللهَ وحده ، لا يشرك به شيئاً.
وقص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة نبي من أنبياء الله صلوات الله عليهم وسلامه ، ضربه قومُه فأدمَوه ، وهو يمسح عن وجهه الدم ، ويقول : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون .
متفق عليه  -  رياض الصالحين / باب في العفو والإعراض عن الجاهلين 

 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة التاسعة عشرة
(صدقك وهو كذوب )
 

جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه بعد أداء الفريضة يسبح الله ويحمده ويكبّرُه ، والمسلمون بين يديه يفعلون فعله ، فإذا انتهى أحدهم استأذن ، وانطلق إلى مقصِده . أما أبو هريرة رضي الله عنه فقد كان من فقراء أهل الصفـّة لا عمل له سوى التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمته.
فلما انتهى المسلمون من صلاتهم وذكرِهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا أبا هِرّ ٍ
قال : لبيك وسعديك يا رسول الله .
قال : ادن منّي .
قال : سمعاً وطاعة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقاتُ المسلمين في رمضان كثـُرَتْ بين يديّ ، واحتاجت إلى من يحفظها ويسهر عليها حتى يحين وقت توزيعها على فقراء المسلمين ، ورأيت أن أكلفك بذلك .
قال أبو هريرة : أرجو أن أكون عند حسن ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم بي .
وجُمع كل شيء يأتي به الناس في مكان يُشرف عليه أبو هريرة .
فلما جنّ الليل رأى رجلاً يأخذ من الطعام ، فأمسك به أبو هريرة قائلاً : كيف تُسَوّل لك نفسك سرقة المسلمين ؟
قال الرجل : إني محتاج ، وعليّ عيالٌ ، وبي حاجة شديدة .
قال أبو هريرة : كان عليك استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الرجل : أنا فقير ذو فاقة فاعف عنّي .
قال أبو هريرة : إن عُدْت إلى مثلها أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الرجل : لا أعود إلى مثلها .
فأطلقه أبو هريرة على أن لايعود إلى السرقة .
فلما أصبح أبو هريرة انطلق إلى المسجد يؤدي الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟
قال أبو هريرة : شكا إليّ حاجةً وعيالاً ، فرحمته فخلّيت سبيله ؛ يا رسول الله .
قال صلى الله عليه وسلم : أما إنّه قد كذَبَك ، وسيعود .
قال أبو هريرة يخاطب نفسه : لأرصُدَنّه ، ولأنتبهنّ إليه ، فما ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صدقاً .
وفي مثل وقت أمسِ جاء الرجل متلصّصاً يأخذ من الطعام ، فأمسك به أبو هريرة متلبساً ، وقال له : لأرفعَنّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أخلفت وعدك .
قال : دعني يا أبا هريرة ، فما دعاني إلى المجيء إلا شدّةُ فقري ، وكثرةُ عيالي ، وأنت رحيم ، فالطُف بي ، واطلقني .
قال أبو هريرة : عِدني أن تَصْدُقني ، فلا تعود .
قال : لك عليّ ألآ أعود مرّة أخرى ، فقد احسنتَ إليّ .
فأطلقه أبو هريرة على أن يلتزم عهده ، فلا يعود إلى السرقة .
فلما أصبح الصباح انطلق إلى المسجد يؤدي الصلاة – كعادته – مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهت الصلاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟
قال له أبو هريرة : رق قلبي له يا رسول الله حين تباكى ، وزعم أنه ذو حاجة وعيال ، فخلّيت سبيله على أن لا يعود .
قال صلى الله عليه وسلم : إنّه قد كذَبك، وسيعود .
قال أبو هريرة يخاطب نفسه : صدَقتَ يا رسول الله ، فما تقول إلا الحق ، ولئن قلْتَ إنه سيعود ليعودَنّ . فانتبه ؛ يا أبا هريرة وتيقّظْ .
وفي الوقت الذي جاء فيه ذلك الرجل في اليومين السابقين رآه أبو هريرة يحثو من الطعام ، فقبض عليه بشدة ، وقال :
هذه آخر ثلاث مرات تسرق ، فأضبطك ، فتزعم أنك ذو عيال وحاجة شديدة ، وأنك لن تعود ، ثم تعود .
قال الرجل : ماذا تودّ أن تفعل بي يا أبا هريرة ؟
قال : لأرفعنّك غداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الرجل : أفتتركني إن علّمتك كلمات تقولهنّ إذا أويتَ إلى فراشك ، ينفعك الله بها ؟
قال أبو هريرة : نعم ؛ فما هنّ ؟
قال الرجل : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ . ولا يقربُك الشيطان حتى تصبح .
قال أبو هريرة مخاطباً نفسه : أقرأ آية الكرسي ، فأُفيد بها بها مرّتين : الأولى يحفظني الله بها من السارقين ، والأخرى يحفظني الله بها من الشيطان . ..لأعفوَنّ عنه .
أيها الرجل : اذهب لا تثريب عليك .
وعندما أُذّن لصلاة الفجر انطلق أبو هريرة كعادته إلى المسجد ليصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة ، فما أعظم صلاةَ الجماعة ، وما أروعها من صلاة حين يكون الرسول الكريم إمامَها .
وحين انتهت الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هر ، ماذا فعل صاحبك بالأمس ؟
قال : زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخلّيتُ سبيله .
قال صلى الله عليه وسلم : ما هي يأبا هرِّ ؟
قال : أمرني حين آوي إلى فراشي أن أقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ).
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إنّه صَدَقك ، وهو كذوب . .. أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ .
قلت : لا يا رسول الله .
قال النبي صلى الله علسيه وسلم : ذاك شيطان .

رواه البخاري
من رياض الصالحين
باب في الحث على سور وآيات مخصوصة

 

















 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة العشرون
(ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)
 

قال الولد لأبيه : ألا ترى إلى جارنا قد قلّ ماله ، وكاد يخسر كل تجارته.
قال الوالد : نسأل الله أن يحفظه ومالَه ، فمن علائم الإيمان – يا بني – أن تدعو لأخيك المؤمن ما ترغبه لنفسك .
قال الابن : ليس هذا ما أردتُ يا أبي ، وإن كنت أدعو له بالرزق الوافر.
قال الأب : وما الذي أردتـَه يا بني من ذلك؟
قال الابن : أردتُ أن انبهك إلى أنني طالبتُه بدين لنا عليه ، فسكتَ والألم باد في وجهه ، ثم طلب أن نؤجله قليلاً .
قال الأب : كان عليك – وقد عرفتَ حاجته – أن تـُنظره، لا أن تحرجه .
قال الابن : إن انتظارنا فترة أخرى قد يجعلنا نخسر مالنا حين يفتقر تماماً ، فرغبت استنجازه قبل أن يضيع كل شيء .
قال الأب : إنك بهذا تزيد الطين بلة ، وتؤذيه .
قال الابن : ولكنه حقنا ؛ با أبي .
قال الأب : أين أنت من وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالجار " حتى كاد أن يورّثه " وأين حُسنُ العِشرة؟!... إن الله يسأل عن صحبة ساعة ... أين أنت كذلك من قول الله تعالى " وإن كان ذو عُسرة فنَظِرَةٌ إلى ميسرة "؟
-
الابن ساكت
أردف الأب قائلاً : أتحب – لوكنت مكانه – أن يطالبك بمثل ما تُطالبه ؟!
-
ظل الابن ساكتاً
واستمر الأب قائلاً بصيغة السؤال : أتدري جزاء من يتجاوز عن المُعسر ؟
قال الابن متسائلاً في حياء : وما جزاؤه يا أبَتِ ، حفظك الله مربياً ومعلماً ؟
قال الأب : جزاؤه الجنة ، وقبل ذلك غفران الله وعفوه اللذان يكونان سبباً في دخول الجنة .
قال الابن : كيف ذلك يا والدي ، وضح جزاك الله الخير والجنة .
قال الأب : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه المعتاد في الروضة المشرفة بعد الصلاة يعلم الناس ، ويعظهم أن يكونوا يداً واحدة ، ومجتمعاً متكافلاً فقال :
حوسب رجلٌ ممن كان قبلكم ، كان غنياً موسراً ، آتاه الله مالاً وافراً ، فلما وقف بين يدي الله تعالى قال الله سبحانه له – وهو أعلم بما فعل - : ماذا عملت في الدنيا فيما آتيتك من مال ؛ يا عبدي ؟
قال : هل أستطيع أن اكتمك- يا رب - حديثاً ، وأنت علام الغيوب ؟ .. تعلم ما كان وما يكون ، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون . !! كنت – يا رب – حين آتيتني مالاً أبايع الناس ، وأنت نُصب عيني ، فأعاملهم معاملة هينة لينة ، أتجاوز عن هفَواتهم ، وأتيسّر على الموسر ، وأُنظرُ المعسر .
قال تعالى : فهل مَن يشهد على ذلك ؟
قال الرجل : كنت أقول لفتاي : إذا أتـَيتَ معسراً فتجاوز عنه ، لعل الله أن يتجاوز عنا .
قال تعالى : فلم كنت تفعل هذا يا عبدي ؟
قال الرجل : ليس لي من عمل الخير إلا القليل ، فقلتُ : أُيَسّر على عباد الله ، فيُيَسّرَ الله عليّ .
قال تعالى : أنا عند حسن ظن عبدي بي ، وأنا أحق بذا منه ... تجاوزوا عن عبدي ...
فأدخلتْه الملائكة الجنّة معزّزاً مكرّما .
قال الابن : فاز الرجل إذ ِاشترى الآخرة بالدنيا .
قال الأب : أفلا تقتفي أثَره ، ونسير على خُطاه ، يا ولدي ؟
قال الابن : بلى يا والدي ، جزاك الله عني كل خير ، وأدخلني وإياك في زمرة عباده الصالحين ، وأظلّنا يوم القيامة تحت عرشه ، يوم لا ظلّ إلا ظلُّه .

من رواية البخاري ومسلم والترمذي
رياض الصالحين /باب فضل السماحة في البيع والشراء














القصة الواحدة والعشرون
ماشطة ابنة فرعون

يتجلى في هذه القصة إيمان المرأة الداعية – شقيقة الرجل ونصفه اللطيف – القوي الذي يجعل منها في الحق لبؤة قوية ، ثابتة العقيدة كالجبال الرواسي ، قوية النفس كالعاصف الدويّ، لا تبيع دينها بمنصب ولا مال ولا دنيا مهما كانت الدنيا مقبلة غويّة .
فهي ماشطة ابنة فرعون ، تعيش وأسرتها في بحبوحة ويسر ، ورغد وهناءة ، قريبة إلى قلب فرعون البلاد ، استأمنها على بناته ونسائه ، فكانت عند حسن ظنه في أداء عملها ....
لكن هذه النعمة التي يحسدها عليه كثير من النساء ، وهذه الحظوة التي نالتها عند مليك البلاد لم تضعف دينها – وهي تعيش بين عتاولة الكفر وسدنة الضلال – بل جعلتها تشكر نعمة ربها أنْ هيّأ لها هذه النعمة ، وبوّأها تلك المكانة ... فجاء الابتلاء والاختبار على قدْر الإيمان ، وكانت جديرة أن يخلدها التاريخ في دنيانا ، وأن يكون الفردوس الأعلى مثواها ومأواها ..
فما قصة ماشطة ابنة فرعون يا ترى ؟!
فقد ذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه ليلة أسريَ به إلى بيت المقدس وجد رائحة طيبة ملأت صدره الطاهر وآنسته في مسراه ، فالتفت إلى رفيق سفره وأمين الله في رسالاته إلى الأنبياء الكرام يسأله عن سر هذه النسمة المباركة فقال :
يا أخي جبريل ؛ ماهذا العبق الآخّاذ الذي ملأ المكان .
قال جبريل : هذه رائحة قير ماشطة ابنة فرعون وزوجها وابنهما .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : كأن فرعون قتلهم ؛ أليس كذلك يا أخي جبريل ؟
قا جبريل : بلى يا محمد ؛ أصبت كبد الحقيقة .
قال : هذا دأب الظالمين ، قد خبـِرت الكثير من أمثال فرعون في مكة وغيرها .
قال جبريل : هم كذلك في كل زمان ومكان ، نسخة واحدة تتكرر في البطش والتنكيل ، وظلم البشر ، والتجبر عليهم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما قصتهم يا أخي جبريل ؟.
قال : كان الرجل وزوجته من المؤمنين الأتقياء - إن الطيور على أشكالها تقع – رزقا طفلاً أرضعاه لبن الإيمان والتقوى ، وكانا يكتمان إيمانهما في هذا السيل من الكفر الطامي ، وكلما وجدا في إنسان بذرة خير واطمأنا إليه دعَواه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد . ويظل الداعية آمناً في حياته إذا لزم جانب الحذر ، وعرف كيف يظهر إيمانه ومتى؟
لكنّ الحذر لا ينجي من القدَر . والدنيا دار ابتلاء يسعد فيه من نجح في الامتحان ، ويهوي فيه من نكص على عقبيه . وباع باقياً بزائل .
قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : فكيف كُشف أمرُهما ؟
قال جبريل عليه السلام : بينما كانت المرأة تمشّط شعر بنت فرعون وقع المشط من يدها ، فانحنت تتناوله قائلة باسم الله . .. فانتبهت ابنة فرعون إلى قولها ، وكأنها استحسنته . فابتسمت بوجه المرأة تشكرها على إيمانها القوي بالمتألّه المتكبر فرعون . ثم قالت لها متلطفة ومتأكدة بآن واحد : تقصدين أبي - الإله العظيم – أليس كذلك ؟.
لو أرادت المرأة أن تستدرك ما قالته لأجابت إجابة مبهمة ملمّحة ليست واضحة ، كأن تبتسم بوجه الفتاة ، وتغبطها على حبها لأبيها ، أو تتمتم بألفاظ غير مفهومة توحي بالاعتذار ، أو تشاغلها بحديث آخر يبعدها عن الجواب ..
ولعل امتعاضها من هذا السؤال غير المتوقع كشف خبيئتها ، وفضح مستورها ... ولعلها ظنت بالفتاة خيراً ، ورأت الوقت مناسباً للمصارحة بالحقيقة والدعوة إلى الله .. ولم لا؟ فامرأة فرعون نفسها آمنت بالله رباً واحداً لا شريك له ، وبموسى عليه السلام نبياً ، وكفرت بزوجها الدعيّ المتجبّر ، وسألت الله تعالى أن ينجيها من فرعون وعمله ، وأن يبني لها بيتاً في الجنة ، فلم لا تكون ابنتها مثلها ؟!
قال المرأة : بل باسم الله خالق السموات والأرض ، رب العالمين .
قالت الفتاة : أنت تقصدين والدي بالطبع .
قالت المرأة بل أقصد الله ربي وربـَّك وربَّ أبيك .
قالت الفتاة محتدّة : ماذا تقولين يا مرأة ؟
قالت الماشطة بهدوء واتزان : إن أباك بشر مثلي ومثلك يا ابنتي ، لا حول له ، ولا قوة ، وما فرعون إلا رجل كبقية الرجال يأكل ويشرب ، وينام ويستيقظ ، ويمرض ويصح ... إنه مخلوق يا ابنتي ، فلا تغرّنّك المظاهر الكاذبة الخادعة .
قالت الفتاة الغرّيرة مستاءة ممن حطّم آمالها الطفولية بأبيها – وكل فتاة بأبيها معجبة – لأشكونّك إلى أبي ما لم تعودي عن قولك هذا .
قالت الماشطة : بل تعس أبوك من متكبر لا يؤمن بيوم الحساب .
وصل الخبر إلى فرعون ، فامتلأ غضباً وتاه كِبراً ، أفي قصره من يكفر به ؟ أوَصَلَ أتباع موسى إلى مأمنه ومكمنه ؟ يا للفضيحة ! .. وأسرع يستجلي الخبر ليئده في مكانه قبل أن يستفحل خطره في القصر ، ثم بين المقربين ... قد انتشر بين العامّة فلا ينبغي أن يصل إلى عرين فرعون .
قال فرعون : أصحيح ما قالته الفتاة ؛ أيتها الماشطة؟!
قالت : نعم أيها الملك ، فلا إله إلا الله وحده ، لا شريك له .
قال مهدداً متوعّداً : ألك رب غيري ؟.
قالت المرأة : ربي وربك الله الذي في السماء ؛ أيها الفرعون .
قال لأقتلنّك إن فعلتِ .
قالت : لكل أجل كتاب ، وإلى الله المصير .
قال فرعون : أزوجك صابئ مثلك ؟ لأقتلنكما معاً .
وجيء بالزوج ، فأعلن شهادة الحق المدوية في أذن التاريخ أنْ لاإله إلا الله ، وحده لا شريك له .
والفراعنة في كل زمان ومكان لا يحبون أن يسمعوا قولة الحق ، ولا يقرون بها ، ويعذبون أصحابها ويقتلونهم ... لكنْ أن يٌقتل الأطفال بجريرة غيرهم أمرٌ في غاية الهمجية والوضاعة ؟! هذا دأب الجبابرة العتاة والشياطين المردة .
وكما فعل أصحاب الأخدود بالمؤمنين فعل فرعون بهذه الأسرة الصغيرة المؤمنة ، فأوقدت النار في نقرة كبيرة من نحاس عميق ،
فلما اشتد أوارها قالا له : إن لنا إليك حاجة .
قال فرعون : ماهي ؟
قالا: أن تجعل رفاتنا في ثوب واحد ، فتدفنه في حفرة واحدة .
قال : ذلك لكم لِما لكما علينا من حق خدمتكما لنا .
وألقي الرجل فيها أولاً ، فكان رابط الجأش ، نديّ اللسان بذكر الله عز وجل .
وكما نطق رضيع في قصة الأخدود يحث أمه على الدخول في الأخدود دون خوف ولا نكوص فرمت به وبنفسها فكانت من الخالدين نطق الرضيع هنا قائلاً لأمه : اصبري يا أماه فإنك على الحق ، واقتحمي النار ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .. فاقتحمتها لتفوز الأسرة بالنعيم المقيم في جوار رب محب رحيم .

موقع الدرر السنية / كلمة/ الماشطة
 







قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثانية والعشرون
هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم
 

نحن الآن في سماء المدينة المنوّرة ، تلك البلدة الصغيرة التي شع منها نور الإيمان إلى أرجاء المعمورة ... خففِ السرعة يا حادي الأرواح ، واهبط بنا قرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .... رويداً .... رويداً ...
هؤلاء الصحابة الكرام يتحلقون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو يحدّثهم – فلنقتربْ قليلاً كي نملأ عيوننا من جمال طلعته ، وقلوبَنا من بهاء نوره، وآذانَنا من حسن بيانه وصدق كلماته ، ولنسلم عليه بسلام النبوّة ... يا ألله ؛ ما أحلى أن يعيش المؤمن ساعة مع نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم ، وما أفضل أن يلتقي أصحابه الكرام ! ... لِيجلسْ كل منا حيث ينتهي به المجلس ... قد بدأنا نسمعه صلى الله عليه وسلم يقول :
إن لله ملائكة يطوفون في الطرق ، يلتمسون أهل الذِّكر .
قال أبو بكر : ومن أهل الذكر يا رسول الله ؟
قال صلى الله عليه وسلم : هم المصلّون وقرّاءُ القرآن ، والداعون بخير الدارين ، من يتلو حديثي ، فيفهمه، ويدرس العلم ، ويُتقنه، ومن يسبّح بحمد الله ، ويُرَطّب لسانَه بذكره .
قال عمر : ولكنّ المسجدَ مكانُ هؤلاء ، يا رسول الله .
قال صلى الله عليه وسلم : إن الله معك – يا عمر - في المسجد ، وبين الناس تبيع وتشتري ، وفي مسيرك إلى حاجتك ، وأنت وحدك بعيداً عنهم تذكر الله ، وتفكر في عظمته وبديع خلقه وكثرة فضائله ، وهو – سبحانه – يريد أن يراكم في حِلـَق العلم وفي حِلـَق الذكر ، في مساجدكم وفي مجالسكم ، في بيوتكم وبين أهليكم . ويرسل ملائكته تغشى مجالسكم ، فإن وجدوا بعضَكم يذكر الله عزّ وجلّ نادى بعضُهم بعضاً :
هلمّوا ؛ قد وجدنا بُغيَتَنا ، قد وجدنا ما نبحث عنه .
قال عثمان : فماذا يفعلون ؛ يا رسول الله إن وصل جمعُهم إلى حِلَق الذاكرين ؟
قال صلى الله عليه وسلم : يطوفون حول الذاكرين ، ويدورون دافعين أجنحتهم مظللة عبادَ الرحمن راضين بما يفعلون ، مُقرّين بما لهم من فضل وزلفى ومكانة عند الله ، ويرفعون إلى الله أعمال عباده .
قال علي : يا رسول الله ؛ أفلا يعلم الله ما يفعل عبادُه ؟! فلِمَ ترفع الملائكةُ أعمالهم إليه – سبحانه- وتعالى ؟.
قال صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى حين خلق آدم وأخبر ملائكته أن ذريته سيعيشون في الأرض ويعمُرونها قالت الملائكةُ : " يا رب ؛ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك ؟! فأراد المولى سبحانه أن يبيّن لهم أن في الناس من يرقى إلى مكانةٍ عظيمة حين يتصل قلبه بالله ويكون عمله خالصاً لوجهه سبحانه ، وأن الملائكة ليست وحدها تعبد الله وتعرف حقه ، وعلى هذا فهو – سبحانه- يسألهم عما رأوا من عباده مِن ذكر وعبادة ودعاء .
قال سعد ابن أبي وقّاص : ولِمَ يسأل الله ملائكتَه عن المؤمنين - يا رسول الله – وهو أعلم بما يفعلون ؟.
قال صلى الله عليه وسلم : رضاً عمّا يفعلون ، ورفعاً لدرجاتهم ، وإشهاداً للملائكة بفضلهم .
قال أبو عبيدة : هل لنا أن نعرف ما يدور من حوار بين الله تعالى وملائكته الأبرار ؟
قال صلى الله عليه وسلم :
يقول الله تعالى : ما يقول عبادي ؟ وهو أعلم بما يقولون .
تقول الملائكة : يسبحونك ، ويكبّرونك ، ويحمدونك ، ويمجّدونك .
فأنت المنزّه عن الشبيه والمثيل ، وأنت الكاملُ الكمالَ المطلقَ .. يا ألله .. وأنت الكبير العظيم ، بيدك مقاليد الأمور ، تصرفها كيف تشاء ، لك الحمد ، فأنت صاحب الحمد ، ولك الشكر ، فأنت صاحب الشكر ... المجدُ لك ، والشرف والعزّ لك ... لا إله إلاّ أنت .
يقول الله تعالى : وهل رأَوني ، فعرفوا صفاتي ، فلهجوا بها ذاكرين مسبحين ، مكبرين حامدين ممجدين ؟
تقول الملائكة : لا والله ؛ ما رأوك- يا رب – وهل يُحيط الحقير بالجليل ، والناقص بالكامل ، والصغير بالكبير ؟! سبحانك – يارب
يقول الله تعالى : إنهم يسبحونني ، ويكبرونني ، ويحمدونني ، ويمجدونني ، ولم يرَوني . فكيف إذا رأوني ؟ ماذا يفعلون ؟.
تقول الملائكة : لو رأوك لكانوا أكثر عبادةً، وأشد تمجيداً ، وأطولَ تسبيحاً .
يقول الله تعالى : فماذا يسألون ؟
تقول الملائكة : يسألون الجنة التي وعدْتَها عبادَك الصالحين .
يقول الله تعالى : وهل رأوها ، فطلبوها ؟
تقول الملائكة : لا – يارب – كيف يرونها ، وهم في الدنيا ؟ إنما عرّفهم بها رسولك محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الله تعالى : سألونيها ، ولمّا يروها ، فكيف لو رأوها ؟
تقول الملائكة : لو رأَوها كانوا أشد حرصاً عليها ، وأشد لها طلباً ، وأعظم رغبة فيها .
يقول الله تعالى : فممّ يتعوّذون ؟ وممّ يخافون ؟.
تقول الملائكة : يتعوّذون من النار ، ومنها يخافون ، وإليك – ياربّ- يلجأون .
يقول الله تعالى : يتعوّذون بي منها ؟ فهل رأَوها ، فخافوها ؟
تقول الملائكة : لا والله – يارب – ما رأَوها ، لكنّ كتابَك خوّفهم منها ، ورسولك الكريمَ حذ ّرهم منها ومن عذابها .
يقول الله تعالى : يسألونني إجارتهم منها ، وإنقاذَهم من حرّها وعذابها ، ولمّا يرَوها ، فكيف لو أنّهم رأَوها ؟.
تقول الملائكة: لو رأَوها كانوا أشدّ فِراراً منها ، وأكثر خوفاً وهروباً .
يقول الله تعالى : إنهم يذكرونني ، ويسبحونني ، ويمجّدونني ، ولسألونني الجنّة ، ولم يروها ، ويتعوّذون من النار ، ولم يرَوها ... أشهدُكم - يا ملائكتي – أنني قد غفرت لهم .
يقول ملَك منهم : ياربّ إن فيهم رجلاً لم يأتِ إلى حلـْقتهم قاصداً ذكرك وعبادتَك ، إنما كانت له حاجةٌ عند أحدهم ، فهو ينتظره ليقضي له حاجَتَه ، أفـَقـد غفرتَ له؟ .
يقول الله تعالى : نعم ... هم القومُ لا يَشقى جليسُهم .
فرفع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديَهم إلى السماء يبكون ، ويشهقون ، ويجأرون إلى الله تعالى أن يغفر ذنوبهم ، ويرفعهم في عليين ، وأن يعفو عنهم ، ويتجاوزَ عن سيئاتهم ...
ورفعنا نحن أيديَنا إلى السماء نقول : ونحن يا رب معهم .. ونحن يا رب معهم .. فهم القوم لا يشقى بهم جليسُهم ...

متفق عليه
رياض الصالحين
باب فضل حِلـَقِ الذ ّكروالندب إلى ملازمتها
 















قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثالثة والعشرون   
 
عندما يتخاصم الصالحون
 

اشترى رجل من رجل آخر عقارا، فلما تفقده وجد فيه جرة من ذهب. قال شيطانه :خذها ، هي لك. قال الرجل: لو علم البائع ما فيها ما باعها ، والله لأعطينٌه إياها ، فهي له .
وانطلق المشتري إلى البائع يحمل الجرة .
المشتري : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
البائع : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أهلاً ومرحباً .
المشتري : خذ ذهبك – يا أخي - فقد عثرت عليه في البيت الذي بعتني إياه.
البائع : إنه ليس لي ، فقد برئت ذمتي منه، وهو لك حلال زلال.
المشتري : أصلحك الله ،يا أخي،إنما اشتريت الدار منك، ولم أشتر الذهب.
البائع : إنما بعتك الدار وما فيها.
يا الله ،ما هذان إلا ملكان،!.. لقد ساق الله تعالى إليهما الرزق، وكل واحد منهما يتورع أن يأخذه، وهو يدفعه إلى صاحبه.من أي طينة هما؟!وكيف يفكران؟!.
إن الناس ليقتل بعضهم بعضا فيما ليس لهم، وينصبون الشراك ليبتلعوا الباطل ما أمكنهم  ويخادعون ،أما هذان فيؤثر كل منهما أخاه الآخر ، ويتبرأمن الذهب..نعم من الذهب الذي يسيل اللعاب لذكره،بله الرؤية والتملك!!
 واختصما.. نعم ، وتحاكماإلى رجل صالح،كان ذكيا لبقا، ينظر بنور الله ، فرزقه الله حسن الفهم وسداد البصيرة.
ابتسم لهما
قال: ألكما ولد؟
البائع: لي غلام "صبي"
المشتري: لي جارية"بنت"
قال: أنكحا الغلام الجارية،وأنفقا عليهما من المال،وتصدٌقا.

متفق عليه
رياض الصالحين ، باب المنثورات والمُلَح

 

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الرابعة والعشرون
نسألك اللهمّ العافية
 
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قصّها على أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ،
فقال : أتاه الليلة آتيان فقالا له : انطلق . فانطلق معهما ، فأتَوا على :
1) رجل مضّجع وآخر بيده صخرة ، وإذا به يهوي بالصخرة على رأسه ، فيشدخ له رأسه ويشقّه ، ويتدحرج الحجر مبتعداً ، فيلحق به الرجل ، فيأخذه ويعود إلى الرجل الأول ، فيجد رأسه عاد صحيحاً كما كان ، فيفعل به مثلما فعل المرّة الأولى .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للرجلين : سبحان الله ، ماهذانِ؟! ولِمَ يفعل الرجل الثاني بالأول ما فعل؟ فلا يُجيبانه ، بل يقولان له : انطلق معنا . فينطلقُ .
2) فإذا بهم يقفون على رجل مستلق لقفاه ، وإذا آخر قائم عليه ، وبيد كَـَلـّوبٌ من حديد يضعه على أحد شِقـّي وجهه ، فيشدّه ، فيقطع شدقه إلى قفاه ، ويُقَطـّع سَحَره ( حلـْقَه ) إلى قفاه ، ويمزّق عينه ، فتنفر إلى قفاه كذلك ، ثم يتحوّل إلى الجانب الآخر ، فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول . فما يَفرغ من ذلك الجانب حتى يَصحّ ذلك الجانبُ الأوّل كما كان ، ثم يعود عليه ، فيفعل فيه مثلما فعل في المرة الأولى ... فيقول الرسول صلى اللله عليه وسلم : سبحان الله ؛ ماهذان؟! ولِمَ يُفعل به ما يُفعل ؟ ، فلا يجيبانه بل يقولان له : انطلق ، انطلقْ . فينطلقُ معهما .
3) فيأتون على حفرة كفـُوَّهة التنّور ، قال : فسمعنا في لَغـَطاً وأصواتاً تعلو وتنخفض ، فنظرنا فيها ، فإذا رجال ونساء عُراة ، وإذا أعلى التنور ضيق ، وأسفلُه واسع يتوقـّد ناراً ، فإذا ارتفعت النار ارتفعوا حتى كادوا يخرجون ، وعلا صياحُهم ألماً ومرارة ، وإذا خمدت النارُ رجعوا فيها ... فقلت : ما هؤلاء ؟! فلم أسمعْ منهما سوى انطلق انطلق، ولم يجيباني .
4) فتبعتـُهما ، فأتينا على نهر أحمر مثلِ الدم ، وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارةً كثيرةً ، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ، ثم يأتي نحو الرجل الآخر يريد الخروج ، فإذا أراد أن يخرج ، وفتح فاه ألقمه هذا حجراً ، فردّه حيث كان ، فينطلق فيسبح ، فإذا عاد يريد الخروجَ فعل به مثل ما فعل سابقاً ، فيرجع كما كان . فقلت لصاحبيّ : ماهذان؟! وما الذي أراه ؟، فلم يردّا عليّ سوى انطلق انطلق . فأنطلق معهما .
5) حتى وصلنا إلى رجل كريه المنظر ، لم أرَ مثله هكذا إنساناً كريها ، وإذا هو عنده نارٌ يوقدُها ، ويسعى حولها مهتمّاً بحسن إيقادها . فقلت لهما : مَن هذا ؟ ولِمَ يوقد النار؟ فلم يجيبا كعادتهما ، بل أمراني أن أجدّ السيرَ ، فانطلقَ وراءهما ، فالتزمت أمرهما مسرعاً .
6) فأتينا على روضة ممتلئة زهوراً ووروداً ، جميلةٍ نضرةٍ وافيةِ النبات ، طويلـِهِ ، ورأيت في وسطها رجلاً طويلاً لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء ، وإذ حول الرجل أولاد كثيرون جداً ، لم أرَ مثلَهم قطّ . فسألتهما عنه وعمّنْ حوله ، فلم يصغيا لي ، وأمراني أن أتبعهما مسرعاً ففعلتُ .
7) فوصلنا إلى شجرة ضخمة جداً ، آخذةٍ في العرض والارتفاع ، لم أرَ مثلها اتـّساعاً وعلُوّا ، فقالا لي : ارْقَ فيها . فارتقينا فيها إلى مدينة مبنيّة من لـَبـِن ذهبيّة وأخرى فضّية . وارتقينا الباب ، فاستفتحاه ، ففُتح لنا ، فدخلنا المدينة ، فرأينا أوّل ما رأينا عجباً . تلـَقـّانا رجال نصفـُهم جميل كأحسن ما ترى من الجمال ، وشطرُهم الآخر قبيح كأقبح ما ترى من القبح . قالا لهم : اذهبوا فـَقعوا في النهر ، فذهبوا إلى نهر يجري ، كأن ماءه بياض خالص ، لا تشوبه شائبة ، فسبحوا فيه هنيهة ، ثم عادوا إلينا قد ذهب ذلك السوءُ عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ....
ثم التفتا إليّ وقالا: هذه جنة عدن التي وعد الله المؤمنين .
وقال أحدهما : أمّا أنا فجبريل ، وهذا ميكائيل . فارتاحت نفسي إذ عرفتـُهما ، فقلت :
قد رأيتُ منذ الليلةِ عجباً ! ، فوضّحا لي ما رأيتُ .

قالا: أمَا إنا سنخبرك بعدما رأيتَ ما رأيتَ :
1- أما الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يشق صاحبُه رأسَه بحجر ثقيل فإنه الرجل الذي يتهاون في قراءة القرآن ومُدارسَتِه ، الذي ينام عن الصلاة المكتوبة ، فلا يصليها لوقتها .
2- وأمّا الذي يقطع صاحبُه شِدقَه إلى قفاه ، ومَنخره إلى قفاه فهو الذي يخرج من بيته قد أكرمه الله وستره ، فلا يرى لشكر الله سوى الكذب ونشره والاجتهادِ في إذاعته على الناس جميعاً ، لا يرى في ذلك حرجاً .
3- وأما الرجال والنساءُ العُراةُ الذين هم في مثل بناء التنّور فإنهم الزناةُ والزواني الذين أشاعوا الفاحشة ، وانغمسوا فيها دون أن يحسُبوا للشرف والطهارة حساباً .
4- وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يسبح في النهر الأحمر ، فيُلقِمُه صاحبُه الحجارةَ فإنه آكل الربا الذي يغصُب الناس أموالَهم وأقواتَهم التي بذلوا في سبيلها دماءهم وعرقهم .
5- وأما ارجل الكريه المنظر الذي عند النار يوقدها ، ويسعى حولها فإنه مالِكٌ خازن جهنّم ، يجهّزها للعُصاة المارقين .
6- وأما الرجل الطويلُ الذي في الروضة فإنه أبوك إبراهيم عليه السلام ، وأمّا الوِلْدانُ حوله فكل مولود مات على الفطرة ....
فقال بعض المسلمين الحاضرين : وأولادُ المشركين يا رسول الله ؟
قال صلى الله عليه وسلم : وأولاد المشركين .
7- وأما القوم الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ ، وشطرٌ منهم قبيحٌ فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، تجاوز الله عنهم .
وقال الملَكان مشيرين إلى مكان عالٍ : وهذا منزلك .
فرفعت رأسي فإذا فوقي مثلُ السحاب الأبيض ....
قلت لهما : بارك الله فيكما ، دعاني أدخل منزلي .
قالا: أمّا الآن فلا ، إنه بقي لك عُمُرٌ لم تستكملْه ، فلو استكملتَه أتيتَ منزلك .

رواه البخاري
رياض الصالحين / باب تحريم الكذب 

 


 


















قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الخامسة والعشرون
إنه خالص لله
 

قال الابن لوالده: لقد أعطيت مسؤول الجمعية الخيرية المالَ الذي تبرعنا به ، وحين سألني عن صاحب المكرمة ذكرت له اسمك.
قال الأب : ألم أوصِك – يا بنيّ- أن لا تفعل ذلك ؟ ألم أقل لك : ادفع المال ، وذيّل التوقيع باسم " فاعل خير " وامضِ دون أن يعرفوك ؟.
قال الابن : اجتهدت – يا والدي – أن تُعرف برَجل " البر والتقوى " ليقتدي بك الناس في السخاء والكرم .
قال الأب : أنا لا أحب الرياء يا ولدي ، فإنه يُحبط العمل الصالح ، ويُضيع الأجر .
قال الابن : من قال إنك تـُرائي بتبرعك بما أعطاك الله يا أبي ... إلاّ أنه خطر ببالي أن تبرعك على أعين الناس يشجعهم على تقليدك فيبذلوا المال ... وقد ترغب مرة أن ترشح نفسك لمنصب يخدم الأمة ، فيكون ذكرك الحسنُ شفيعاً عندهم للوصول إلى ما تبتغيه من خدمتهم والسهر على مصالحهم .
قال الأب : حسبك - يا بني – فهذه – والله- المراءاةُ بعينها ... لقد ضيعتني - يا ولدي – استغفر الله وأتوب إليه ... ما كنت أقصد ذلك .. أستغفرك ، يارب .
قال الابن : كيف يَضيرُك ما فعلتـُه – يا أبتِ – أنا لا أقصد إلا الخير .وهل في أن تكون النية الصالحة مختلطة بالمصلحة الدنيا مدعاة إلى سخط الله ؟!
قال الأب : إن الله تعالى لا يقبل من عبده إلاّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم .. هل سمعتَ بقصة الشهيد والعالِم والمحسن الذين كـُبـّوا على وجوههم في النار حين تباهـَوا بما فعلوا ؟
قال الابن : أرجو - يا والدي –أن تعلَمني وترشدني ، فأنا إلى نصائحك وإرشادك أحوج مني إلى الماء الزلال .
قال الأب : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه وهم متحلقون حوله ترنو إلى وجهه الصبوح عيونُهم ، وترشف من معين تعاليمه قلوبُهم :
إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد .
قال أحدهم : أيُقضى عليه أم لم له ؛ يا رسول الله ؟ فقد سمعنا منك أنه شهيد ، والشهيد له الدرجات العلا كما علمتنا يا رسول الله .
قال عليه الصلاة والسلام : بل يُقضى عليه ... تأتي به الملائكةُ إلى الحق – جلّ وعلا – فيُعرّفه نعمته التي أنعم بها عليه : الإيمان ، الصحة ، العافية ، القوة ، الرزق .... فيُقر الرجل بنعم الله تعالى عليه ..... فيسأله الله تعالى – وهو العليم – فما عملتَ فيها ؟
يقول الرجل : قاتلت في سبيلك وخضت المعارك أعلي كلمة الحق ، واستشهدت دفاعاً عن دينك القويم .
فيقول الحق تبارك وتعالى : كذبت أيها الرجل ( وإذا نطق الحق خرست الألسنة ونُكّست الرؤوس ، وأيقن المخاطَب بالهلاك والثبور وعظائم الأمور ) ولكنك قاتلت ليقول الناس إنك جريء ... وقد قيل ، فليس لك عندي ثواب سوى النار ، فأنا لا أقبل إلا ما كان خالصاً لوجهي ، خذوه إلى النار ... فيُسحب الرجل على وجهه مَهيناً ذليلاً ، ثم يُلقى في نار جهنّم .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ومثله رجل تعلم العلم ، وعلّمه الناسَ ، فلهجوا بذكره ، وكبر في عيونهم ، وقرأ القرآن بصوت حلو عذب ، فرتـّله ترتيلاً رائعاً ، فمالت رؤوس القوم له يستزيدونه ، فييزيدُهم ، ويُطرونه ، فيَسعد بإطرائهم .. ولقد كان يتعلّم ، ويعلّم ، ويقرأ ليستفيد مالاً ومركزاً وذكراً حسناً بالإضافة إلى ما يظنّه العملَ الصالحَ .. فهو يُفيد الناس َ!!!
تأتي به الملائكة يوم القيامة فيقف أمام الحق تبارك وتعالى ، فيُعرّفه نعمه الجليلة وأفضاله ، فيقرّ بها الرجل ، ويعترف بفضل الله سبحانه عليه ، فيسأله الله تعالى – وهو العليم – بما قدّم في الدنيا – فما عملتَ فيها ؟
يقول الرجل : تعلمتُ العلم ، وعلّمتُه ، وقرأت القرآن ورتّلتُه ... كل ذلك ابتغاء مرضاتك – يا رب- وطلباً لجنتك .
فيقول الحق تبارك وتعالى : كذبت أيها الرجل ( وهنا يشعر أنه خسر نفسه بريائه ، وهوى في جهنم قبل أن يهوي فيها ، وهل بعد قول الجليل قول ؟) ولكنك تعلمتَ ليُقال : عالم . وقرأتَ القرآن ليقال : قارئ . وقد قال الناس ذلك . ونلتَ استحسانهم ، وهذا ثوابك الذي أردتـَه . ، فليس لك عندي سوى نار جهنم ، فأنا لا أقبل من العمل إلا الخالص لي ... خذوه إلى جهنم ... فيُسحب على وجهه خزيان خاسراً حتى يُلقى فيها .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ومثله رجل وسّع الله عليه ، فأعطاه المالَ أصنافاً – دنانير ودراهم ودوراً وعقاراتٍ وأنعاماً – فقدّم إلى المحتاجين الكثيرَ ، وعُرف بين الناس بـ " رجل البر والتقوى " فسُرّ لهذا اللقب ، فجعل يُعطي ، ويمُنّ على العباد . وما جلس مجلساً إلا ذكر ما فعله ، وعدّد ما قدّمه ... تأتي به الملائكة أمام علاّم الغيوب ، فيُعرّفه أفضاله الجزيلة وخيراتِه الوفيرة، فيقر الرجل بفضل الله تعالى عليه ، وهل يُنكر عاقل فضل الله وكرمه؟!! فيسأله الله تعالى – وهو العليم .. العليم بكل شيء – ما عملْتَ فيما أعطيتك وفضّلتُ عليك ؟ .
يقول الرجل : ما تركتُ من سبيل تحب – يارب – أن يُنفق المال فيه إلا أنفقتُ في مرضاتك .
فيقول الحقّ تبارك وتعالى : كذبت: ( من كذب خاب ، ومن خاب عاب ... حين ينطق من يعلم السرائر بهذه الكلمة فقد باء المقصود بها بالمصير المرعب والنهاية الفاضحة ، فيا ويل من يصفه الله تعالى بالكذب ) ولكنك بذلت المال ليقول الناس : إنه جواد كريم ، وقد قالوا ذلك ، فماذا تبَقّى لك عندي ؟! من سمّع سمّع اللهُ به ، ومن يسلكْ طريق الرياء يجد ْعاقبة الرياء تنتظره ... خذوه إلى جهنّم .. ( إنه الحكم الفصل الذي لا استئناف فيه ) ... وتجره ملائكة العذاب على وجهه مهيناً ذليلاً ، فيُلقى في نار جهنّم .
وينهي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حديثه ، فترى القوم يسبحون في عرقهم خوف أن يكون في عملهم رياء ، ويستعيذون بالله من الرياء ، وسوء مصير صاحبه ,
وسكت الأب هنيهة ، ونظر إلى ابنه ليراه واجماً ساهماً ، كأنّ على رأسه الطير .
فقال : أعرفتً يا ولدي كيف ينبغي أن يكون العمل لله وحده ؟
كان سكوت الولد اوضحَ جواب .

رواه مسلم
رياض الصالحين / باب تحريم الرياء 






















القصة السادسة والعشرون
المسيح الدجال

عن أنس رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب .. ألا إنّه أعور ، وإن ربكم عز وجل ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه : " ك . ف . ر" متفق عليه .
بهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه عن المسيح الدجال .
فقال له أصحابه : يا رسول الله ؛ أكثرْتَ الحديث عنه ، فخفنا ، حتى ظنناه قريباً منا ، وكأنه سيطلع علينا بعد قليل من ناحية هذا النخيل .
قال صلى الله عليه وسلم : غيرَ الدجال أخوفني عليكم ، إذا خرج فيكم فأنا حجيجه دونكم – أكفيكم مؤونته - ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤٌ حجيجُ نفسه – فكل منكم مسؤول عن نفسه - ، والله خليفتي على كل مسلم .
قالوا : يا رسول الله صفه لنا .
قال : إنه شاب شديد جعود الشعر ، عينه اليمنى بارزة ناتئة كأنها عَنَبةٌ ، قد ذهب نورُها ، أعور ، يدّعي الألوهية ، مكتوب على جبينه : كافر ... يرى المؤمن ذلك واضحاً .
قالوا : فمن أين يخرج يا رسول الله ؟.
قال : يخرج من طريق بين الشام والعراق ، فيعيث فساداً في الأرض أينما ذهب .
قالوا : فما لبثه في الأرض ؟ - كم يبقى في الأرض
قال : أربعون يوماً : يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم .
قالوا : يا رسول الله ؛ فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ - فالصلاة للمسلم كالماء للحي ، لا يعيش دونها .
قال : لا : اقدروا له قدْرَه ... - فلا بد من تقسيم الوقت في هذا اليوم ، وكأنه سنة - .
قالوا : فمن يتبعه ؛ يا رسول الله ؟ .
قال : يتبع الدجالَ - من يهود أصفهان – سبعون ألفاً عليهم الطيالسة " ثياب اليهود المزركش بالأخضر " .
قالوا : يا رسول الله ؛ كيف سرعته في الأرض ؟.
قال : كالغيث استدبرته الريح – إسراع المطر الذي تسوقه الريح بشدة ، فيصل إلى كل بقاع الأرض - .
قالوا : أيدخل كل البلاد ويفسدها؟! .
قال : ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال ، إلا مكة والمدينة ، تحول الملائكة بينه وبينهما صافـّين يحرسونهما . فإن وصل المدينة نزل بالسبخة القريبة منها ، فترجف المدينة ثلاث رجَفات ، يُخرج الله منها كل كافر ومنافق .
قالوا : فماذا نفعل ، إن ظهر ونحن أحياء ؟
قال : انفروا في الجبال ، ولا تقفوا في طريقه ، فما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبر من الدجال ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف .
قالوا : فما الذي يفعله ؟!
قال : يأتي على القوم ، فيؤمنون به ، ويستجيبون له . فيأمر السماء ، فتمطر، والأرضَ فتنبت، وتعود عليهم إبلهم وبقرهم وأغنامهم ضخمة الأجسام ، ممتدة في الطول والعرض سِمَناً ، ويكثر لبنُها . – وهذا استدراج كبير نسأل الله الثبات على دينه - .
ويمر بالخِربة التي هجرها أهلها منذ غابر الأزمان ، فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فتتبعه كنوزها كذكور النحل المجتمعة ، فيزداد أتباعُه به ضلالاً .
ويأتي على القوم ، فيدعوهم ، فيردون عليه قوله ، ويثبتهم الله على الإيمان ، فينصرف الدجال عنهم ، فيصبحون ممحلين ، ينقطع الغيث عنهم ، وتيبس الأرض والكلأ ، ليس في أيديهم شيء من أموالهم ولا أنعامهم ، نسأل الله أن يثبتهم على دينهم .
قالوا : يا رسول الله ؛ أمعه شيء غير هذا ؟.
قال : نعم .... فمن ذلك أن الدجال يخرج ومعه ماء ونار . فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق ، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد وعذب . فمن أدركه منكم فلْيقعْ في الذي يراه ناراً ، فإنه ماء عذب طيب .
قالوا : يا رسول الله ؛ أفلا نحاجه ، ونكذّبه ؟ .
قال : لا يظنّنّ أحدكم أنه قادر على ذلك . فإذا ذهب إليه فتنه ، فتبعه ، فضلّ وكفر .
قالوا : فمن أعظم شهادة عند رب العالمين إذ ذاك ؟.
قال : يتوجه إليه رجل من المؤمنين ، فيتلقّاه مقدّمة جنود الدجال ... فيقولون له : إلى أين تذهب أيها الرجل ؟ فيقول : أعمد إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه إله ... فيتعجبون من جوابه ، ويسألونه : أوَ ما تؤمن بربنا ؟! فيقول : هذا ليس رباً ، إنما ربكم الذي خلق السموات والأرض ، وما هذا إلا مارق كافر .
فيثورون فيه ، ويتنادَون لقتله ، ويهمّون بذلك ، لولا أن كبيرهم يذكّرهم أن الدجال أمرهم أن لا يقتلوا أحداً حتى يُعلموه بذلك . فيقيّدونه وينطلقون به إلى الدجال .
فإذا رآه المؤمن صاح بأعلى صوته : أيها الناس ؛ لا يغرنكم هذا الشيطان ، فإنه أفـّاك دجال ، يدّعي ما ليس له ، هذا الذي حذركم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فيشتد غضب الدجال ، ويأمر زبانيته ، فيوثقونه مشبوحاً ، ويوسعون ظهره وبطنه ضرباً . فيقول الدجال مغضباً آمراً رجاله أن يُؤذوه ويشجوه ، فيزداد الرجل المؤمن إيماناً .
حينذاك يأمر الدجال رجاله أن ينشروه بالمنشار من رأسه إلى أن يفرق بين رجليه ، فيفعلون ، ويُبعدون القسمين أحدهما عن الآخر ... فيمشي الدجال بينهما مستعرضاً ألوهيته ، فيخر الناس ساجدين له ـ فينتشي عظمة وخُيلاء .
ثم يقول له : قم .. فيقترب النصفان ، فيلتحمان ، فيعود الرجل حياً ، فيقول له الدجال : أتؤمن بي إلهاً ؟ . فيتهلل وجه المؤمن قائلاً : ما ازددت فيك إلا بصيرة ، وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنك ستفعل بي ذلك .
ينادي الرجل بأعلى صوته : انتبهوا أيها الناس ، إنه لن يستطيع أن يفعل بعدي بأحد من الناس شيئاً ، لقد بطل سحره ، وعاد رجلاً مسلوب الإرادة كما كان . فيأخذه الدجال ليذبحه ، فلا يستطيع إليه سبيلاً ، لأن الله تعالى جعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً ، فيأخذ الدجال بيديه ورجليه فيقذف به . فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار ، وإنما ألقي في الجنة .
فهذا أعظم شهادة عند رب العالمين .
قالوا : يا رسول الله ؛ كيف ينقذنا الله من فتنة الدجال ؟
قال : في هذه اللحظة – حين يبلغ السيل الزبى – يرسل الله أخي عيسى ، ليكون السهم الذي يصمّ به عدوّ الله وعدوّكم .
قالوا : وأين يكون عيسى عليه السلام ، يا رسول الله ؟.
قال : إنه في السماء ، رفعه الله تعالى إليه حين مكر اليهود به ، وأرادوا قتله . ورعاه هناك ليعود إلى الأرض في الوقت الذي قدّره الله تعالى ، وللأمر الذي يريده سبحانه .
قالوا : صفه لنا ، يا رسول الله ؟ .
قال : ينزل عند المنارة البيضاء ، شرقيّ دمشق ، يلبس ثوبين جميلين ، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه انحدر منه ماء الوضوء ، وإذا رفع رأسه انحدر منه قطرات الماء كأنها اللؤلؤ الصافي . فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا أن يموت ،وينتهي نفَسُه إلى حيث ينتهي طَرْفُه.
قالوا : أليس في ذلك الوقت جماعة للمسلمين ؟.
قال : بلى ، إنه المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، بعد أن مُلئت جَوراً وظلماً . ينصر الله المسلمين على يديه ، إنه من آل بيتي ، من ولد الحسن بن علي ، وهو الذي يفتح روما عاصمة الروم " الإيطاليين " ، يبيد جيوش أوربة الكافرة .
قالوا : ولم يجتاح الدجال البلاد ، والمسلمون أقوياء إذ ذاك ؟! .
قال : ألم أقل لكم : إنها الفتنة الكبرى ، حيث يرتد كثير من المسلمين على يد المسيح الدجال .
قالوا : وأين يكون المهدي ؛ يا رسول الله ؟
قال : في القدس يحاصره الدجال ، ويحاول اقتحامها ليجعلها عاصمته الأبدية ، عاصمة اليهود ودجالهم . والمهدي وجنوده يدافعون عنها ، ويقاتلون ما وسعهم القتال .
قالوا : وماذا يفعل المسيح عليه السلام حين ينزل في دمشق ؟.
قال : ينطلق إلى القدس ، فيدخلها ، فيتعرف المهديّ عليه والمسلمون ، ويفرحون لنزوله ، فيستلم قيادة المسلمين ، ويهاجم الدجال .
قالوا: فماذا يفعل الدجال حين يسمع بعيسى عليه السلام قادماً ؟.
قال : يفر من بين يديه إلى اللد ؛ وهي مدينة في فلسطين ، قريبة من القدس ، لكنّ عيسى عليه السلام يتبعه ، ويطعنه برمحه ، فيذوب بين يديه كما يذوب الملح في الماء ... ويرفع الله الهمّ والغمّ عن المسلمين ، ويحدثهم عيسى رسول الله بدرجاتهم في الجنة ، ويمسح عن وجوههم بيده الشريفة ، فما في الدنيا إذ ذاك أعظم سعادة منهم .

رواه مسلم
رياض الصالحين ، باب المنثورات والمُلح
 




















قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة السابعة والعشرون
عيسى عليه السلام ويأجوج ومأجوج
 

قال الصحابة الكرام لرسولهم الحبيب عليه الصلاة والسلام :
قد حدثتنا ؛ يا رسول الله عن عيسى عليه السلام وقتله الدجال شر قتلة ، فهل يرتاح المسلمون بعد ذلك ؟.
قال : لا؛ إنما يبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج – قبيلتين ضخمتي العدد ، يأتون من الشرق يجتاحون بلاد المسلمين . – وقد تبين لمن سافر إلى الصين أن هاتين القبيلتين عماد سكان الصين الذين يبلغون ملياراً ومئتي مليون إنسان ، وهم يتكاثرون بشكل سريع .
قالوا : فماذا يفعل المسلمون بقيادة نبيهم عيسى عليه السلام أمام هذا العدد الهائل من الصينيين ، أبناء يأجوج ومأجوج؟.
قال : يتجهزون لقتالهم ، فيوحي الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أنْ لا قِبَل لك بهم . ولا يستطيع أحد أن يقف أمامهم .
فيقول عيسى عليه السلام : فماذا أفعل يا رب ؟
فيقول تعالى : اصعد إلى جبل الطور ، وحرّز عبادي فيه ، فأنتم هناك في مأمن .
قالوا : أوَهم كثيرون إلى هذا الحد المخيف ؛ يا رسول الله ؟.
قال : يبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حَدَب ينسلون – يسرعون المشي والخروج - ، فيمر أوائلهم على بحيرة " طبرية " – شمال فلسطين على الحدود السورية – فيشربون ما فيها من ماء . ويمر آخرهم ، فيقول : لقد كان مرة بهذه ماء !!
أرأيت كثرتهم ؟ ما لأحد بهم من طاقة .
وتقل المؤن في المسلمين ، وتضيق عليهم الدنيا ، ويلجأون إلى الله تعالى يدعونه ، ويتضرعون إليه ، وهل غيره من مجيب ؟ وهل غيره سبحانه من ملاذ وملجأ ؟! هو سبحانه مفرّج الكروب ، ومُذهب الهمّ.
اللهم أذهبْ عنا ما نحن فيه من الهمّ والغمّ ، ونجّنا برحمتك ، يا أرحم الراحمين .
اللهم ؛ لقد طغَوا وبغَوا ، وجاهروك بالعداوة ، وأذلوا عبادك ، وليس إلا إليك المهرب ، وإلى رحابك العَوذ والملجأ ..... ويُكثر المسلمون الدعاء والرجاء .
قالوا : يا رسول الله ؛ صلى الله عليك وعلى إخوانك الأنبياء ، فماذا يكون ؟.
قال : يرسل الله تعالى الدود في رقابهم فتأكلها ، فيصبحون موتى جميعاً ،
وينزل أحد المسلمين يستطلع أخبارهم ، فيراهم جثثاً هامدة لا حراك فيها ...
وكانوا قد أعلنوا أنهم هزموا أهل الأرض جميعاً ...
وإمعاناً في الكفر والضلال يرمي كبيرهم رمحه أو سهمه في السماء ، فيعود مصبوغاً بالدم ، فيقول : ها نحن قتلنا من في السماء أيضاً ، فلنا كل شيء . ...
ما بهم الآن قد انتشروا جيَفاً قذرة يملأ نتنُها الآفاق ؟!.. ما في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهَمهُم ونتنُهم وخبثُ رائحتهم .
إن الله تعالى الذي قتلهم قادر على تخليص العباد منهم ... ولكن ما على العباد إلا أن يدعوا ، ويرغبوا إلى الله تعالى ، وأن يتضرّعوا إليه سبحانه ... وقد فعل عيسى وأصحابه ذلك .
قالوا : وكيف ينجّيهم الله تعالى من عفن يأجوج ومأجوج وخبث رائحتهم ونتَن أجسادهم الذي ملأ الأرض ؟.
قال : يرسل الله تعالى طيوراً كأعناق البخت " الإبل الخراسانية الضخمة " فتحمل هؤلاء القتلى ، فتطرحهم إلى حيث يشاء الله تعالى .
ثم يرسل الله غيثا غزيراً ، يملأ وديان الأرض لغزارته ، فيغسلها ، حتى يتركها صافية كالمرآة النظيفة .
ينزل المسلمون ، ويسجدون لله شكراً على نعمائه وفضله .
ثم يُقال للأرض : أنبتي ثمرتَك ، وردّي برَكَتك . فيومئذ تأكل الجماعة من الرمانة ، ويستظلون ، بقشرها !! ، ويبارك الله تعالى في ضرع الأنعام ، فتدر الحليب ، حتى إن لبن الناقة الواحدة ليكفي الجماعة من الناس ، واللقحة من البقرة لتكفي القبيلة من الناس ، ولبن الغنمة ليُشبع العشيرة منهم .
قالوا : وكم يلبث عسى عليه السلام في الأرض ؟
قال : سبع سنين ، فيها الحياة رغيدة ، والعدل قائم ، والإيمان وارف الظلال ، ويعيش الناس بعده ما يشاء الله لهم أن يعيشوا في دولة الإسلام وعزتها ، وصفاء العقيدة ، وضيائها .
ثم يرسل الله ريحاً باردة من قِبَل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير إلا قبضَتْه . حتى لو أن أحدهم كان داخل كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه .
فيبقى شرار الناس في خفة الطير إلى الشر ، وإلى الشهوات والفساد . وفي أحلام السباع إلى العداوة والبغضاء والشحناء ، لا يعرفون معروفاً ، ولا يُنكرون منكراً . ..
على أمثال هؤلاء تقوم الساعة .

رواه مسلم
رياض الصالحين / باب المنثورات والمُلح
 


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثامنة والعشرون
فَهمها سليمان  -   

كانت امرأتان ، معهما ابناهما الرضيعان
جاء الذئب ، فذهب بابن إحداهما .
قالت الكبرى : أكل الذئب ولدك ، وهذا ابني .
قالت الصغرى : بل أكل الذئب ابنك ، وهذا ولدي .
واختصمتا إلى داوود عليه السلام ...
ولعل الكبرى كانت ألحن بحجتها من الصغرى ، فحكم لها داوود بالولد
حملت الكبرى الولد مغتبطة فرحة ،
وانطلقت الصغرى حزينة كئيبة تندب حظها .
رآهما سليمان بن داوود عليه السلام ، فدعاهما ، وسألهما ،
فأخبرتاه بما ادّعت كل منهما ، وبما حكم أبوه .
وكان سليمان ذا نظر ثاقب ، آتاه الله الحكمة ، وعلّمه فصل الخطاب .
فقال في نفسه : إن الذي يحكم في هذه القضية العاطفةُ لا العقلُ.
فلأستثيرَنّ المرأتين ، فمن ظهر منها الحب الأكبرللرضيع حكمت به لها .
قال لهما : كل واحدة تعتقد ان هذا الولد لها ؟
قالتا : نعم .
قال : وتصر أنه ولدها ؟
قالتا : أجل .
قال : إيتوني أيها الرجال بالسكين ، أشقه بينهما .
سكتت الكبرى ..
ونادت الصغرى متلهفة : لا تفعل ذلك – رحمك الله – هو ابنها .
ورضيت الصغرى أن يكون ولدها للكبرى فيعيش ـ وتراه عن بعد .
هذا يسعدها لا شك . وهل ترضى الأمّ أن يُقتل ولدها ؟!
نظر سليمان إليها ، وقال : هو لك ، فخذيه .
متفق عليه - رياض الصالحين / باب المنثورات والملح 

قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة التاسعة والعشرون - فضائل الصدقة -   
كان يحب الخير ، ويرجوه لغيره ، ويتصدق على الفقراء والمساكين ليدخل في زمرة الشاكرين ... وعلم أن صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وأنها تدفع الأذي وتشفي – بإذن الله –
فقال: لأتصدّقنّ سراً .
وفي الليل خرج بصدقته ، يجتهد أن يضعها في يد من يستحقها ، ورأى من بعيد شخصاً يقترب منه ، لم يتبيّنه ،
فقال: هذه بغيتي ، فلما التزمه – التصق به – أعطاه صدقته ، وانطلق إلى بيته يسأل الله تعالى الثواب وحسن الجزاء .
كانت الملائكة تكتب على أبواب الناس في ذلك الزمن ما يفعلون .. وفي الصباح تحدث الناس عن صدقة وقعتْ في يد لص سارق .
قال الرجل : يا رب؛ ما أردتُ السارق ، ولكن أردت من يستحق هذه الصدقة ... لك الحمد أولاً وآخراً فأنت عليم خبير أردتَ بإيصال هذه الصدقة للسارق حكمة لا أدريها .
لأتصدّقنّ ثانية ، فلعل الصدقة تقع في يد من يحتاجها .. وانطلق حين أظلم الليل يجتهد أن يضع صدقته هذه في يد من يستحقها ، فرأى شبحاً يدنو منه ، فقال : لعله هو الذي أبحث عنه ، فدفع إليه صدقته وأسرع إلى بيته لا يراه أحد .
وفي الصباح تحدث الناس عن صدقة وقعت في يد زانية .
قال الرجل : يا رب؛ ما أردت الزانية ، ولكن أردْت من تستره هذه الصدقةُ . لك الحمد أولاً وآخراً أنت الحكيم تفعل ما تشاء .
لأتصدّقنّ ثالثة ، فعسى أن تقع في يد ذي حاجة ، فتسعفه .... وحين أسدل الليل ثوبه الأسود على المدينة انطلق صاحبنا يحمل صدقته ، فرأى ظلاً قابعاً في زاوية ، فقال : لعله فقير . فدفع إليه صدقته ، وتوارى سريعاً إلى داره .
وفي الصباح تحدّث الناس عن صدقة وقعت في يد غني ...
فقال : اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني ! .
فأرسل الله إليه من يقول له :
1- أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفّ عن سرقته . 2- وأما صدقتك على زانية فلعلها تستعفّ عن زناها .                                    3- وأما صدقتك على غني فلعله يعتبر ، فينفق مما آتاه الله .
متفق عليه - رياض الصالحين / باب المنثورات والملح 


 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثلاثون
إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر
 

جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأم إسماعيل وابنها- وهي ترضعه- حتى وضعهما عند الكعبة ، عند ( دوحة فوق زمزم ) في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جراباً ( وعاء من جلد ) فيه تمر ، وسقاء فيه ماء .
ثم قفـّى إبراهيم عليه السلام منطلقاً .
فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم ؛ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ، ولا شيء ؟! قالت له ذلك مراراً وهو لا يلتفت إليها ...
فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم .
قالت ( قول الواثق بربه المؤمن به ) : إذاً لا يضيّعنا .
ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنيّة ( منطقة الحجون ) حيث لا يريانه فاستقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات : " ربّ ؛ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم .. " حتى بلغ " يشكرون "
وجعلت أم إسماعيل تشرب من ذلك الماء ، ويدر لبنها على صبيّها ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ولدها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه وهو على هذه الحال ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً ؟ فلم ترَ أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ( ثوبها ) ثم سعت سعْيَ الإنسان المجهود ( الذي أصابه الجهد والتعب ) حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ( الجبل الصغير المقابل للصفا ) ، فنظرت هل ترى من أحد ، فلم ترَ أحداً .
ففعلت ذلك سبع مرات ...
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فذلك سعي الناس بينهما " فلما أشرفت على المروة (في الشوط السابع ) سمعت صوتاً ، فقالت : صهْ - تريد نفسها – ثم تسمّعتْ ، فسمعتْ ايضاً ( الصوت الذي سمعته سابقاً ) فقالت : قد أسمَعْتَ إن كان عندك غواثٌ ( الغوث والمساعدة ) ( فعادت إلى ابنها ) فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه – أو جناحه – حتى ظهر الماء ، فجعلتْ تحوضُه ( تجعله مثل الحوض ) ، وتقول بيدها هكذا ( لا تريده أن يخرج من الحوض ) وجعلت تغرف في سقائها ، وهو يفور ، وكلما غرفتْ عاد الماء كما كان يملأ الحوض .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحم الله أم إسماعيل لو
تركت زمزم – أو قال : لو لم تغرف من الماء – لكانت زمزم
عيناً معيناً " ( جاريةً على ظهر الأرض ) .
قال : فشربت ، وأرضعت ولدها .
فقال لها الملَك : لا تخافوا الضيعة ( الهلاك ) فإن ههنا بيتاً يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يُضَيّع أهله ( الصالحين )
وكان البيت مرتفـَعاً من الأرض – كالرابية – تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وعن شماله .
فكانت كذلك ( مر عليها زمن على هذه الحالة ) حتى مر بهما رفقة من ( قبيلة جُرهُم ) أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كـَداء ، فنزلوا أسفل مكة ، فرأوا طائراً عائفاً ( يحوم على الماء ويتردد ، ولا يمضي عنه ) فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لَـَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرِيّاً أو جَريّتين ( رُسلاً ) فإذا هم بالماء ، فرجعوا ، فأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل على الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندكِ؟ قالت : نعم ، ولمن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم.
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ( تأنس إلى الناس وترغب بمجاورتهم ) فنزلوا ، فأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم ، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات ( بنَوا بيوتاً حول الماء ) وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم ( فهو عراقي الأصل وولد في فلسطين ، ولغة أبيه غير العربية ) وأنفَسَهم ( أعجبهم لما فيه من شمائل حميدة ) وأعجبهم حيث شبّ ، فلما أدرك ( بلغ مبلغ الرجال ) زوّجوه امرأة منهم .
وكان إبراهيم عليه السلام يزورهما ويتفقدهما كل حين ..
وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم عليه السلام بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركتَه ( يتفقد آل بيته ) فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا – وفي رواية يصيد لنا – ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بِشَرّ ، نحن في ضيق وشدة ، وشكَت إليه ...
قال : فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغيّرْ عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه آنس ( أحسّ) شيئاً ،
فقال : هل جاءكم من أحد ؟
قالت: نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألَنا عنك ، فأخبرتُه ، فسأني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة .
قال : هل اوصاك بشيء؟
قالتْ : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غيّرْ عتبة بابك .
قال : ذلك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك .. الحقي بأهلك ، فطلّقها ... وتزوّج منهم أخرى .
فلبث ( غاب ) عنهم إبراهيم عليه السلام ماشاء الله ، ثم أتاهم بعدُ ، فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسأل عنه . قالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشتهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة . وأثنت على الله تعالى . فقال لها : ما طعامكم ؟ قال : اللحم . قال : وشرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذ حَبّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيه " .
ثم دعته إلى طعامهم وشرابهم ... ثم قال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام ، ومريه أن يثبت عتبة داره .
فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك ، فأخبرته، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير .. قال إسماعيل : فأوصاك بشيء ؟ قالت: نعم ، يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة دارك .
قال : ذاك أبي ، وأنت عتبة بابي ، أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك ، وإسماعيل يبري نبلاً ( يبري السهم قبل أن يركب في نصله وريشه ) له تحت دوحة ، قريباً من زمزم . فما رآه قام إليه ، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ( من المعانقة والترحيب وغير ذلك ) .
قال إبراهيم عليه السلام : يا إسماعيل ؛ إن الله أمرني بأمر .
قال إسماعيل : فاصنع ما أمر ربك .
قال : وتعينني ؟
قال : وأعينك .
قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ههنا . .. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها .
فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي يبالحجارة ، وإبراهيم يبني .. حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر ( الحجر الأسود ) فوضعه له . فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان " ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم "

رواه البخاري : رياض الصالحين / باب المنثورات والمُلح 





القصة الحادية والثلاثون
عقوبة العُجب

قال صهيب بن سنان الرومي رضي الله تعالى عنه :
كان المسلمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابعون نبيهم صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته ، وأقواله وأفعاله ، وعلاقته بالصغير والكبير فهو صلى الله عليه وسلم أسوتهم وقدوتهم لا يتركونه في لحظة من لحظات خروجه من بيته إلى أن يعود إليه . بل كانوا يسألون نساءه – أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ- عن حياته صلى الله عليه وسلم في أبياته وبين زوجاته كي يكون المشكاة التي يرون بنورها ، ويتصرفون على هداها .
رآه أصحابه يوم حنين بعد صلاة الفجر يحرك شفتيه بشيء لا يسمعونه .
فقالوا : يا رسول الله رأيناك تحرك شفتيك بشيء لا نفهمه .
قال صلى الله عليه وسلم : ألم نكن في معركتنا مع القوم اثني عشر ألف مقاتل ؟
قالوا بلى ؛ يا رسول الله .
قال : أتدرون لم انكفأتم أول المعركة ، وتركتموني مع ثلة من إخوانكم المؤمنين الذين ثبتوا معي في وجه قبائل هوازن وثقيف وسعد بن بكر وغيرهم ؟
سكت القوم فلم ينبسوا ببنت شفة لأنهم كانوا يعرفون السبب ، فقد رأوا جموعهم – جموع المسلمين - كثيرة وأسلحتهم وافرة ، ورأوا أنفسهم ينتقلون من نصر إلى آخر بفضل الله وحوله ، وكان آخر انتصارات المسلمين ذلك الفتح المبين " فتح مكة " .. فلما التقوا في حنين بهوازن وأحلافها أعجبت المسلمين كثرتـُهم ، واغتروا بقوتهم ، وأنساهم الشيطان أن النصر من عند الله ، فقالوا : لن نُغلب اليوم عن قلة !!
فأراد سبحانه وتعالى أن يعيدهم إلى جادّة الصواب ، إلى التوكل على الله والاعتماد عليه ، فوكلهم إلى أنفسهم أول الأمر ، فضعفوا وهربوا ، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم :
أنا النبي لاكذِبْ .... أنا ابن عبد المطلبْ
وأمر عمه العباس أن ينادي المسلمين بصوته الجهوري يحثهم على العودة إلى القتال ، وان يتحلقوا حول بطل الأبطال وسيد الشجعان نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام . فناداهم ، وبدأ الذهول ينقشع عنهم ، وآبوا إلى الحبيب المصطفى يقاتلون معه ، ويدفعون عنه ، ويستغفرون الله تعالى أن يقيلهم من زلتهم هذه ، وان يعفو عنهم وينصرهم ، فقد تعلموا الدرس ، وأيقنوا أن نصر الله باللجوء إليه ، واللياذ به سبحانه " ، فحول النصر إليهم والهزيمة إلى عدوّهم ، وأنزل الله تعالى في سورة التوبة يقرر هذا الأمر ، ويصور هذه الحادثة لتكون العبرة َ على مر الدهر "
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة " ..
فالنصر من الله وحده ، وبيده سبحانه فقط ...
"
ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتُكم .." ومن أعجب بكثرته وقوته رفع الله تعالى يده عنه لأنه تعلق بغير حبل الله تعالى فوكله إلى نفسه .
" 1-
فلم تغن عنكم شيئاً ،
2-
وضاقت عليكم الأرض بما رحُبتْ ،
3-
ثم وليتم مدبرين ،"
وهكذا ضاعوا بداية الأمر لخطئهم الكبير هذا ... فلما أحسوا بهذا الزلل وذلوا لله تعالى ، والتفوا حول نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم وعلموا أن النصر بإذن الله وتوفيقه ، وعلموا أن الله ينصر المؤمنين القلائل على الكفار الكثيرين بتأييد منه سبحانه
"
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " أعاد إليهم الثبات ووهبهم القوة ، وأيدهم بالملائكة ، فاستراحت نفوسهم وتعلقت بالله سبحانه فكانت الدائرة لهم على عدو الله وعدوهم :
" 1-
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ،
2-
وأنزل جنوداً لم تروها ،
3-
وعذّب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين " .
ثم قالوا : الحمد لله على فضله وكرمه ؛ يا رسول الله ...ولكن ما علاقة هذا بما حركت به شفتيك وكأنك تحدث نفسك .
قال : إن نبياً ممن كان قبلكم نظر إلى قومه فأعجبه كثرتهم وقوتهم . فقال : من يفي لهؤلاء؟ ! ومن يقوم لهم ؟! وظن أن الكثرة والقوة وحدهما كفيلتان بأن تصلا إلى النصر والغَلَبة فقال : لن يروم أحداً هؤلاء بشيء . ولا يقف أمامهم أحد ..
وهذا عجب بالنفس يبعد عن الحقيقة التي يريد المولى سبحانه أن يعلـّمناها ، فنتمسك بها . وكان لا بد من رده وقومه إلى جادة الصواب وإلى الدين القويم . وقد يكون الرد صعباً – بعقوبة - وقد يكون سهلاً – بعفو - وكل ذلك بمشيئة الله تعالى ..
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه المشهور " اللهم ردّنا إلى دينك ردّاً جميلاً " فقد كان الرد لهذا النبي الكريم الذي يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقومه قاسياً وعقوبة شديدة .
قال الصحابة : يا رسول الله ؛ فما هي العقوبة ؟

قال صلى الله عليه وسلم : خيـّر الله تعالى ذلك النبي وأصحابه بأمر من ثلاثة أمور :
1-
أن يسلط عليهم عدواً شديداً يحتل بلادهم ويستبيحها ، فيأسرهم ويستذلهم .
2-
أو أن يعاقبهم بالجوع الشديد .
3-
وإما أن يرسل عليهم الموت فيقبض منهم الكثير .
فزع النبي الكريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأصحابه إلى الصلاة والدعاء والاستغفار ، فصلوا ما شاءوا - فمن حزبه أمر فليلجأ إلى الله تعالى يستخيره ويستلهمه - وسألوا الله السداد في الاختيار .
ثم قالوا : لا نصبر على الأولى والثانية ، فما أحد يرضى أن يستذله عدو غاشم ، ولا نصبر على الجوع ، فهو موت بطيء قاتل .
ولكن نختار الموت ، فمصير العباد كلهم إلى الموت .. اللهم هوّن علينا الموت ، وارحمنا إذا ما صرنا إليك ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فمات منهم في يوم - أو قال ثلاثة أيام - سبعون ألفاً .
أرأيتم كيف فضل الله تعالى أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، فخفف عنهم ، ورفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أما أنا فأقول : " اللهم بك أقاتل ، وبك أحاول ، وبك أصاول ، ولا قوة إلا بك " .
فقال أصحابه من بعده : اللهم بك نقاتل ، وبك نحاول ، وبك نصاول ، ولا قوة إلا بك .
وذلت ألسنتهم بها .
حديث صحيح الإسناد

الأحكام الصغرى :537
المهذب : 7/ 3699
موقع الدرر السنية : كلمة ( اللهم بك أقاتل)
 











قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الثانية والثلاثون
أهل الجنة
 

سأل موسى عليه السلام ربه : ما أدنى أهل الجنة ؟
قال سبحانه عز شأنه : هو رجل يجيء ( يخرج من النار حبواً ) بعدما أُدخل أهل الجنةِ الجنة َ، فيُقال له : اُدخلِ الجنة .
فيذهب الرجل يأتيها ، فيخيّل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول :
يا ربّ وجدتها ملأى ، فقد نزل الناس منازلهم ، وأخذوا أخَذاتِهم .
قال العزيز الكريم : أترضى أن يكون لك مثلُ مُلـْكِ مَلـِكٍ من ملوك الدنيا ؟
فيقول : رضيت ؛ يا رب ، ولكنْ أتسخر بي ، أوَ تضحك بي وأنت الملِكُ ؟
يقول الله تعالى : لك ذلك ،ومِثْلهُ ، ومثلُهُ ومثلهُ ومثلُه ُ.
يقول العبد : رضيتُ ؛ يا ربّ ، رضيتُ، ما أكرمك- ربِّ – وما أوسع فضلَك !
يقول تعالى : هذا لك ، وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسُك ، ولذ ّتْ عينُك .
يقول العبد : رضيت ربّ ، فلك الحمد ، ولك الشكرُ ، لستُ أهلاً لذلك ، لكنّك أنت الكريم المتفضّل .
قال موسى عليه الصلاة والسلام : هذا أدنى أهل الجنة! ، فمن أعلاهم منزلةً ؛ يا ربّ ؟
يقول تعالى : أولئك الذين أردْتُ إكرامَهم ، غرستُ كرامتهم بيدي ، فأنْميتُها . وختمْتُ عليها ، فلا يراها أحد غيرُهم ، فلم ترَ عينٌ ، ولم تسمعْ أذنٌ ، ولم يخطُرْ على قلب بشر .
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون ما يقصه عليهم سيدهم وحبيبهم المصطفى مندهشين راغبين أن يتقبل الله أعمالهم ، وأن يرفعهم في علـّيـّين .
قال أحدُهم : يا رسول الله ، اذكر لنا واحدة مما أعده الله تعالى للمؤمنين ؟ .
قال عليه الصلاة والسلام : إن للمؤمن في الجنة لَخيمة ًمن لؤلؤة واحدة مجوّفة ، طولها في
السماء ستون ميلاً ، للمؤمن فيها أهلون ، يطوف عليهم المؤمن فلا
يرى بعضُهم بعضاً .
وتورّدتْ وجوه الصحابة الكرام ، كلهم متشوّق إلى هذه الخيمة الرائعة . ، وسألوا الله تعالى أن يرزقهم برحمته ومنّه وكرمه ما أعدّه لعباده الصالحين .
لمـّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ذلك الشوق أراد ترغيبَهم ، فقال :
إن في الجنة لَشجرةً يسير الراكبُ الجوادَ المضمّرَ السريعَ مئةَ سنةً ما يقطعها .
-
دوّى التسبيح والتهليل والتكبير .....
قالوا : يا رسول الله ؛ كيف تكون منازل المقرّبين ؟
قال : إن أهل الجنّة ليتراءَوْن أهل الغرف من فوقهم كما يتراءَون الكوكبَ الدرّيّ الذاهب في أعلى السماء من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم .
قالوا : يا رسول الله ؛ تلك منازل الأنبياء ، لا يبلغها غيرُهم ؟
قال : بلى - والذي نفسي بيده – رجال آمنوا بالله ، وصدّقوا المرسلين .
قالوا : وهل يجتمع أهل الجنة في أماكن محددة وأزمن معلومة يتزاورون فيها ؟
قال : نعم ، إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة ، فتهب ريح الشمال ، فتحثو في وجوههم وثيابهم ، فيزدادون حُسناً وجمالاً ، فيرجعون إلى أهليهم ، فيقولون لهم : لقد ازددتُم حسناً وجمالاً . فيقولون : أنتم والله لقد ازددتم بَعدَنا حسناً وجمالاً .
قالوا : يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ، زدنا من حديث الجنة ؟.
قال : أتدرون ما يقول الله تعالى لأهل الجنة ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : إن الله عز وجلّ يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة .
فيقولون : لبيك - يا ربنا - وسعديك ، والخير كله في يديك .
فيقول : هل رضيتم ؟
فيقولون : وما لنا لا نرضى – يا رب - ، وقد أعطيتنا مالم تُعط أحداً من خلقك ؟
فيقول : ألا تريدون أفضل من ذلك ؟.
فيقولون : وأيّ شيء أفضل من ذلك ؟.
فيقول : أُحِلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبداً .
فتنطلق ألسنتهم تلهج بالثناء عليه سبحان ، عزّ شأنه .
فيقول : أتريدون شيئاً أزيدكم؟.
فيقولون : يا عظيم الشأن ، يا واهب العطايا ، ويا صاحب الكرم ، ألم تـُبيّض وجوهنا ؟!
أم تدخلنا الجنة ، وتنجّنا من النار ؟! .
فيعطيهم الله عز وجلّ أعظم عطاء يُعطيهم إياه ... إنه سبحانه يكشف الحجاب ، فيرونه
عِياناً ، لا يُضامون في رؤيته .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : فما أُعطُوا شيئاً أحبّّ إليهم من النظر إلى ربهم .
رياض الصالحين  - باب المنثورات والمُلح 


قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثالثة والثلاثون
موسى والرجل الصالح
 

حدّث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
قام موسى النبي صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل يعلمهم ويرشدهم – وهذا دأب الدعاة في كل زمان ومكان ، فمهمتهم الأخذ بيد الناس إلى طريق الهدى ومنهج النور –
فسُئل : أيّ الناس أعلم يا نبي الله ؟.
وكان عليه السلام يظن أنه أعلم الناس في عصره لأنه كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل
فقال : أنا أعلم الناس .
فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه سبحانه وكان عليه أن يقول : الله أعلم ، فيكل العلم والمعرفة إلى الله عزّ وجلّ .
فأوحى إليه سبحانه : أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك ....
قال موسى : ربّ ؛ وكيف لي به ؟ وما السبيل إلى لقائه ؟ فقد أحب أن يلتقيه ويتعلم منه .
قيل له : احمل سمكة في سلة ، ثم انطلق بحثاً عن هذا الرجل ، واتجهْ إلى المكان المحدد – بين البحرين – ( عند مصب النهر في البحر ) هناك ستقابله .
فانطلق موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع بن نون – الذي ورثه في النبوّة والدعوة في بني إسرائيل – ويوشع الذي فتح القدس – حتى إذا وصلا المكان وفيه صخرة كبيرة مستوية أحسّا بالتعب ، فوضعا رأسيهما ، وغرقا في نوم عميق . وانسلّ الحوت من المكتل( السلة ) ، واتخذ سبيله في البحر سرباً ( مسلكاً ومنفذاً ) .. حدث هذا الأمر المعجزة وهما نائمان ، فكان أمراً عجباً إذ كانت السمكة مشوية .
انطلقا بعد ذلك سائريْن بقية ليلتهما ويومهما .
فلما أصبح الصباح ، وأسفر وجه النهار قال موسى عليه السلام لفتاه : " آتنا غداءَنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصَباً " ( تعباً ) . ولم يجد موسى عليه السلام مسّاً من النّصَب حتى جاوزا المكان الذي أمر به وأراد الله تعالى أن يلتقي فيه موسى بالرجل الصالح العالم .
لما طلب موسى عليه السلام الغداء من فتاه – وكان فتاه قد نظر في السلة فلم يجد الحوت – فقال له : " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ! فإني نسيتُ الحوت " .
قال له موسى عليه السلام : فذلك ما كنا نبغيه إذ إننا سنلتقي الرجل الذي وُعدنا به في المكان الذي نفقد فيه الحوت . هذا الرجل أعلم مني ، وكنت أود أن أتعلم منه ما يفيدني في الدعوة إلى الله تعالى . هلمّ - يا ولدي - إلى الصخرة فثمّ نراه ....
" فارتدّا على آثارهما قصصاً " وعادا أدراجهما إلى ذلك المكان . فلما وصلا إليها رأيا رجلاً مسجّى ( مغطّى ) بثوبه ، فسلم موسى عليه ، فقال الرجل – واسمه الخَضِرُ - : وأنّى بأرضك السلام؟!
قال له : أنا موسى بن عمران .
قال الخضر : موسى بني إسرائيل؟
قال موسى : نعم . وقص عليه سبب شد الرحال إليه ، وطلب إليه أن يسمح له أن يكون تلميذاً يتعلم منه مما علمه الله تعالى . " هل أتبعك على أن تعلمَن ِ مما عُلـّمْتَ رُشدا ؟ " .
قال الخَضِر : إنك لن تستطيع معي صبراً – يا موسى – إني على علم من علم الله علـّمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علـّمك الله إياه لا أعلمه ، فكل منا على علم اختصه الله به ، لا يعلمه الثاني .إن عِلْمَ الخضر ( لدنّيّ ) وعلم موسى ( شرعي ) . والفرق بينهما بيّن .
قال موسى : " ستجدني إن شاء الله صابراً ، ولا أعصي لك أمراً " وصبْر التلميذ على معلمه مطلب مهم ، ينبغي أن يتحلّى به المريد كي يستفيد من علم معلمه .
عاد يوشع الفتى إلى قومه ، وانطلق النبيان يمشيان على سـِيف البحر ، ليس لهما سفينة ... فمرّت بهما سفينة ، فكلّماهم أن يحملوهما ، فعرف أهل السفينة الخضر ، فحملوهما بغير نَوْلٍ ( أجرة ) ، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر من الماء نقرة أو نقرتين وهكذا يشرب العصفور في البحر – ولعل السفينة كانت في بحيرة طبريا يصب فيها نهر الأردن – وقد تكون بحيرة حلوة غيرها جفـّت على مرّ الأيام ، والله أعلم . ولا ننسَ أن البحر يطلق على النهر والبحيرة كذلك ، دليله قوله تعالى في سورة الفرقان الآية الثالثة والخمسين :" وهو الذي مرج البحرين ، هذا عذب فرات ، وهذا ملح أجاج ..." . فقال الخضر منبهاً موسى عليهما السلام إلى سعة علم الله تعالى : يا موسى ؛ ما علمي وعلمك وعلم المخلوقات إلى علم الله إلا كما شربه العصفور من ماء البحر !!
ثم عمد الخضر في غفلة من أصحاب السفينة إلى لوح من ألواحها ، فنزعه ، ثم نزلا من السفينة قبل أن يشعر أصحابها بما فعل الخضر بها .
قال موسى عليه السلام مستنكراً فعلته : قومٌ حملونا بغير نَول عمدتَ إلى سفينتهم ، فخرقتها لتغرق أهلها ؟! لقد فعلت مفسدة عجيبة لا يستحقونها منك !
قال الخضر عليه السلام : " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ! " فأنا أقوم بأعمال ظاهرها مفسدة وحقيقتها عونٌ ، وأنت على جهل بها ، لا تعرف حقيقتها .
قال موسى عليه السلام : قد نسيت فلا تؤاخذني يا أخي الحبيب ،
فقبل الخضر عليه السلام عذره ، وانطلقا في طريقهما ، فإذا غلام يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه ، فاقتلع رأسه بيده .
قال موسى عليه السلام محتجاً مرة ثانية : أتقتل الفتى دون جريرة ارتكبها؟! وتزهق نفساً زكية دون سبب ؟ ما هذا المنكر الغريب الذي أتيتَه ؟!
قال الخضر عليه السلام مرة ثانية بأسلوب أشد عتباً من الأولى إذ زاد في قوله ( لك ) " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟! "
فشعر موسى عليه السلام أنه – للمرة الثانية – لم يلتزم بوعد قطعه على نفسه أن يسكت – فقال معتذراً " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، قد بلغتَ من لدنّي عذراً " .
قبل الخضر عليه السلام عذره كرة أخرى، فانطلقا حتى وصلا قرية كبيرة ، سألا أهلها طعاماً ، فكانوا بخلاء ، لم يستجيبوا لهما ، ولم يستضيفوهما . فوجدا جدارً مائلاً يكاد أن ينهدم ، فأومأ الخضر عليه السلام بيده إليه ، فعاد بإذن الله معتدلاً مستوياً !
قال موسى بعدما رأى بخل أهل القرية وإقامة الجدار وأنهما يستحقان أجرة لذلك العمل الإيجابي : " لو شئتَ لاتخذْتَ عليه أجراً " .وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يتدخّل فيها موسى عليه السلام بما لا يَعنيه ، وقد كان وعد أن يسكت منتظراً الخضر عليه السلام أن يشرح له ، ويوضح ما التبس على موسى مما يرى حين يجد الوقت ملائماً .

هنا آن للخضر أن يفارقه ، فقد صبر عليه ثلاث مرات ، ولا حرج أن يعتذر إليه وينصرف عنه ، فصرّح له قائلاً " هذا فراق بيني وبينك " ولكنه قبل أن يفارق موسى قص عليه ما استغلق عن الفهم . وهذا ما نجده في سورة الكهف :
أما السفينة فقد خرقها الخضر لأن ملكاً ظالماًً على الطرف الآخر من البحر كان يغتصب السفن الصالحة ، فيضمها إليه ، وكان أصحاب السفينة فقراء ليس لهم عمل سوى هذه السفينة ، يصطادون بها ، وينقلون بها البضائع والركاب ، فلما رأى الملك العيب الذي أحدثه الخضر في السفينة زهد فيها ، وتركها لأصحابها .
وأما الفتى فسوف يكون – في علم الله حين يصير شابّاً – فاسقاً يُتعب والديه المؤمنَين ويرهقهما ، فأراد الله سبحانه أن يعوّضهما خيراً منه زكاة ، وأقرب رحماً ، فرزقهما فتاة صالحة كانت بعدُ زوجة لنبي من أنبياء الله سبحانه .
وأما الجدار الذي أقامه الخضر فقد كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما خبّأه والدهما الصالح لهما حتى يكبرا ، فأراد سبحانه الرؤوف بعباده أن يبلغا أشدّهما فيستخرجا هذا الكنز – لا يستولي عليه غاصب وهما صغيران – وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بهما إكراماً لوالدهما ، فالله يحفظ الأبناء بصلاح الآباء .
وقد أخبرنا الخضر عليه السلام أنه إنما عمل ما عمل بإذن الله ، فهو مأمور .
قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين المتحلقين حوله يستمعون القصة معتبرين بمواعظها الجليلة : " يرحم الله موسى ؛ لَودِدْنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما ما استغلق " .

ملاحظة : في موقع" أدباء الشام ، قسم حديث الروح" تأملات تربوية في " قصة موسى والخضر عليهما السلام " تحمل معاني تربوية مفيدة ، يمكن الرجوع إليها .

صحيح البخاري ج1 كتاب العلم
باب/ ما يُستحب للعالم إذا سُئل أي الناس أعلم؟ فيَكـِل العلم إلى خالقه
 






















قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الرابعة والثلاثون
يوم لا ينفع مال ولا بنون
 

صلى الأب إماماً بابنه ، فلما سلما ظل الأب جالساً يسبّح الله تعالى ، ويحمده ويكبّره ، ففعل ابنه مثله .... ولمّا شرع الوالد يدعو أصاخ الولد إليه يستمع ويؤمّن على دعائه .
كان يسأل ربه – هذه المرّة - أن يشفـّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبيه وأمه وزوجته وبنيه ... فلما انتهى الوالد من الدعاء التفت ابنه إليه ،
وقال : ما المقصود بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ؟.
الوالد : أن يكون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الوسيلة إلى رضا الله تعالى عن أمته .
الولد : وهل يشفع فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ؟
الأب : نعم – يا بني – هو بابنا إلى الله تعالى ، وقائدنا إلى الهدى ، لقد بذل وقته وراحته وماله في الدعوة إلى ربه ، فهو أحرص علينا منا في الدخول إلى الجنة والنجاة من النار .
الابن : نعم - يا أبتاه – فقد وصفه المولى جل شأنه بالحرص على إسعادنا والرحمة بنا فقال في سورة التوبة : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم
1- عزيز عليه ما عنتّم ،
2- حريص عليكم ،
3- بالمؤمنين رؤوف رحيم "
الأب : وقد وصف لنا الرسول الكريم ألمه وحزنه حين يـَرِد ُالحوضَ ناسٌ من أمته ، فيستبشر بهم ، ويهمّ بسقايتهم بيده الشريفة ، فتدفعهم الملائكةُ بعيداً ،،،،،،
فيقول : هؤلاء أصحابي !!
فتقول الملائكة : إنهم لم يزالوا مرتدّين منذ فارقْتَهم ، لقد نكصوا على أعقابهم ، وسلكوا طريقاً غير طريقك ، فضلّوا ، فلستَ منهم ، وليسوا منك .
فيستشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال عيسى عليه السلام :
" وكنت شهيداً عليهم ما دمتُ فيهم ،
فلما توفـّيتَني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم ،
وأنت على كل شيء شهيد ،
إن تعذبهم فإنهم عبادك ،
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
الابن : فهمت يا والدي أن الشفاعة للمسلمين فقط الذين عصوا ربهم .
الوالد : ليس لهؤلاء فقط يا ولدي ، إنما للمسلمين العاصين جميعاً الذين وجبت لهم النار ، فينقذهم الله منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم . كما أن شفاعته لأهل الجنة في الجنة في رفع درجاتهم ، وإعلاء منزلتهم ، والإسراع بهم إلى الجنة .
الابن : قرأت يا أبي أن إبراهيم عليه السلام يشفع في والده الكافر ، فقد وعده أن يشفع له ، ويستغفر له ، لقد قرأتُ قوله تعالى على لسان نبيه إبراهيم
" قال سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفيّاً "
وقد قلتَ قبل قليل : إن الشفاعة للمسلمين، فكيف يشفع إبراهيم عليه السلام في أبيه ؟!
قال الأب : صحيح ما قلته يا ولدي ، لكن الله تعالى يأبى أن يقبل الشفاعة في كافر أو منافق ، فقد أعلن في مُحكم آياته حين استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكبير المنافقين " ابن سلول " أنه سبحانه لن يغفر لهم " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ،
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم "
قال الابن : وهل هناك استثناء لإبراهيم عليه السلام ؟ فقد وعد أباه أن يستغفر له ؟
قال الأب : لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة مايكون في أمر والد إبراهيم عليه السلام حيث " يَلقى إبراهيم أباه آزرَ يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترةٌ وغَبَرة ،
فيقول إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني ؟
فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك .
فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدْتَني أن لا تخزيَني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من
أبي المبعدِ من رحمتك وعفوك ؟!
فيقول الله تعالى : إني حرّمتُ الجنة على الكافرين .
وهنا يسكت إبراهيم عليه السلام ، فلقد قضى الله عز وجلّ قضاءَه ، ولا رادّ لقضائه ...
ثم يُقال : يا إبراهيم ؟ ماتحت رجليك ؟ فينظر إبراهيم تحت رجليه فإذا هو أبوه قد انقلب ضبُعاً قذراً ملطّخاً ..... فيُخذ بقوائمه ، فيُلقى في النار .
نسأل الله يا بني أن يتقبلنا في عباده الصالحين ، وأن يمن علينا بالإيمان ، وأن نلقاه وهو راض عنا إنه سميع الدعاء .
صحيح البخاري ج4
كتاب بدء الخلق  - باب : قول الله : واتخذ الله إبراهيم خليلاً 


 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الخامسةُ والثلاثون
لا تُؤذوا رسُل الله
 

جاء رجل من أهل البادية حديث عهد بالمدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يَقسم ذهباً وفضة .
قال : يا محمد ؛ والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ماعَدَلْتَ !!!
قال نبي صلى الله عليه وسلم متألماً من افتراء الرجل ووقاحته وغلظته :
ويلك ؛! فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي ؟!!!
وفي رواية البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قِسـَماً إذ جاءه ذو الحويصة التميمي ، فقال :
اعدل يا رسول الله ..
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ويلك ؛ ومن ذا يعدل إذا لم أعدل ؟!!
فقال عمر رضي الله عنه : إئذنْ لي فأضربَ عنقه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة .
(
هؤلاء المتنطعون في كل زمان ومكان ذوو القلوب الفارغة والعقول الضعيفة الذي يظنون أنهم على حق ، وليسوا على شيء ) ..
قال أبو سعيد : فنزلت فيهم " 1- ومنهم مَن يلمزك في الصدقات ،
2-
فإن أعطوا منها رضُوا ،
3-
وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون "
أما ابن مسعود رضي الله عنه فقال :
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حُنين سمعت رجلاً يقول :
هذه قسمة ما أريد بها وجهُ الله ....!
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال :
رحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر "
قال الصحابة : يا رسول الله ؛ فكيف آذى اليهودُ نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام ؟
قال صلى الله عليه وسلم :
إن موسى كان رجلاً حَيِيّاً سـتـّيراً ، لا يُرى من جـِلده شيء استحياءً منه . فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستـّرَ إلا من عيب بجلده ، إما بَرَص وإما أُدْرةٌ 0( انتفاخ في الخصية لتسرب سائل فيها ) ، وإما آفة ...
وإن الله أراد أن يبرّئه مما قالوا فيه ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه ، وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجرُ ( يا حجرُ ) ثوبي حجرُ ...
حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عُرياناً أحسنَ ما خلق اللهُ .، وأبرأه مما يقولون . وقام الحجر ( توقف) ، فأخذ ثوبه ولبسه .
وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إن بالحجر لَنـَدْباً ( أثراً ) من أثر ضربه ، ثلاثاً أو أربعاً او خمساً ، فذلك قوله سبحانه وتعالى :
"
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذَوا موسى ، فبرّأه الله مما قالوا ، وكان عند الله وجيهاً ."

صحيح البخاري / ج4
كتاب بدء الخلق : باب حدثني إسحاق 














القصة السادسة والثلاثون
الكذبات الثلاث

هاهم أولاء الصحابة الكرام في مجلسهم المعهود بعد الصلاة أمام معلمهم وهاديهم وسيدهم محمد عليه الصلاة والسلام يسمعون منه ، ويعون بقلوب عامرة بالإيمان ، مفعمة بالتقدير والحب ، يسألونه :
يا رسول؛ الله حدثتَنا أن إبراهيم عليه السلام حين يأتيه المؤمنون يوم الحشر يستشفعونه إلى الله تعالى ليدخلهم الجنة يذكر كذباته ويقول :
نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى . فماهي هذه الكِذبات ؟ وهل يكذب نبي؟! إننا نقف محتارين حين يخطر ببالنا أن نبياً يكذب !!.
نظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم نظرة المعلم الحاني ، وابتسم ، فأشرقت نفوسهم بابتسامته ، ولمعت عيناه ببريق شع ضوءُه فدخل أفئدتهم ، فأنارها ، وأقبل عليهم ، فأقبلوا عليه .
فقال : كذب إبراهيم ثلاث كَذبات ( في عرف الأنبياء ) إذ كل حركة وسكنة محسوبة عليهم ، وعين الخلق – محبّهم ومبغضهم – تتابعهم ، يحصون ما يفعلون وما يقولون . فالمؤمنون يفعلون ذلك أسوة واتّباعاً ، والشانئون يفعلونها إرصاداً وإحصاء .
أما الكذبة الأولى فقد كان قومه أهل تنجيم ، فرأى نجماً قد طلع ، فنظر إليه متأملاً عظمة الخالق وجماله فيه ، وجاءه قومه يسألونه أن يخرج معهم للاحتفال بولادة هذا النجم - وهذا من طقوسهم – فبيّت إبراهيم في نفسه أمراً لا يستطيع عمله إلا إذا خلا الجو ، وفرغ المكان من الناس ، فعصب رأسه ، وقال : إني مطعون ( مصاب بالطاعون) فتولوا عنه مدبرين خوفاً أن يعديهم .
قال الصحابة الكرام : وما الأمر الذي عزم إبراهيم عليه السلام أن يفعله حين يخلو بنفسه ؟.
قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :
إنه عزم أن يكسر الأصنام التي يعبدونها لينتبهوا من غفلتهم ، ويعلموا أن هذه الآلهة المزعومة – لو كانت آلهة بحق – دافعت عن نفسها .
قالوا : وهل فعل ما قرره ؟!
قال صلى الله عليه وسلم : لما خرج الكهنة ومعهم دهماء الناس مال إبراهيم إلى الأصنام دون أن يشعر الناس به ، فدخل المعبد ، فوجد أمام الأصنام طعاماً ،
فقال لها هازئاً بها : هذا الطعام أمامك ، فيه ما لذ وطاب ، كليه !! مدي أيديك إليه !! .
ولكنْ لاحياة لمن تنادي ....
قال لها مرة أخرى : تذوقيه وتلذذي به ؛ لِمَ لا تفعلين ؟! ..إن كهنتك الأفاقين يُلبّسون على الجهلة ذوي العقول الفارغة ، فيوحون إليهم أنك تأكلين وتكلمينهم ، وتوحين إليهم ، فهم الواسطة بينك وبين الغوغاء !! لماذا لا تنطقين ؟ لأحطمنّك إرْباً إرْباً ، فدافعي عن نفسك ، حافظي على ألوهيتك ! .. ولكنْ أنّى للحجر والخشب أن يتكلما أو يدفعا عن نفسيهما السوء؟! إنها آلهة مزعومة ، لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ...
كانت نفسه في أوج كرهه إياها ، فطفق يضربها بقوة ، يكسرها ، يفتتها ، يبعثرها .. حتى جعلها حطاماً ... وترك كبيرها وسط الدمار علامة الضعف والذل والهوان ، وعلّق عليه الفأس احتقاراً ، عل عبّاده يفكرون ، ويعلمون أنهم في ضلالهم يعمهون ... إن التفكير السليم يوصل إلى القرار السليم .
وجاءه قومه فدخلوا معبدهم ، ويا لَهولِ ما رأوا ! ... هذه الآلهة صارت شَذَر مذَر ... من يجرؤ على هذه الفعلة الشنيعة ؟!!
قال بعضهم : هناك فتى يذكر آلهتنا بسوء اسمه إبراهيم ، فلعله الفاعل ! .
وجيء بإبراهيم ، فأوقفوه موقف المتهم ، وسألوه : أأنت فعلت هذا بآلهتنا ؛ يا إبراهيم ؟!
وكان الناس مجتمعين يسمعون وشهدون .
وهنا تفوّه بالكذبة الثانية : وهي في الحقيقة وخزة لضمائر الناس وهزة لعقولهم ، قال :
بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون !!
لقد غضب هذا الإله الكبير أن تُعبد الآلهة الصغيرة معه ، فانتهز فرصة غيابكم ، فتخلص منها ... اسألوه ، إنه أمامكم ....
إن الفطرة حين تنفضّ عنها ركام الجاهلية ولو برهة يسيرة تنطق صواباً ... لقد كان دفاعه رائعاً حقاً ، منطقياً ، رجّهم رجّاً ، وهزّهم هزّاً .
قالوا : لقد ظلمتم إبراهيم حين اتهمتموه ، هذه آلهتكم أمامكم فاسألوها ، اوَ لستم تعبدونها وتقدّسونها ؟! ففيها حياة إذن !! وضج المكان بالتساؤلات الجادّة والتكهّنات الساخرة .
كان من البدهي – لذوي الأحلام وأصحاب العقول – أن يثوبوا إلى صوابهم ، ويعرفوا أن هذه الأصنام التي صنعوها بأيديهم هم سادتها ، وليست هي سيدتَهم ...
ولكنْ أنّى للعقول العفنة التي ران عليها الكفر ، وطمسها الضلال أن ترى نور الحق وضياء الوحدانيّة ؟! أنّى لمن عاش في حمْأة الغي أن يتلمّس الهداية والإيمان ؟!
لقد كادت كلمات إبراهيم تزلزل الأرض تحت أقدام الكهنة المتعفنين ، وتسلبهم سلطتَهم وزعامتهم إلى الأبد ... لا لا .. لا ينبغي لصاحب الكلمة الحق أن يصدع بها ، إنما يجب كمّ فمه ، فلا يتكلم ، ويجب إرهاب الحاضرين كي يجبُنوا فلا يتبعوه ...
قالوا وقد أعمى الضلال قلوبه ، ونكسهم ، فغاصوا في أوحال الشرك والكفر :
"
لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون" ، فقلتَ قولتَك تحرّك بها عوام الناس وتؤلبهم علينا ، وتسحب البساط من تحت أرجلنا !!..
استمر صوت إبراهيم مدوّياً ، يتحدّى أن يشلّ الداعية أو أن يخيفه :" أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم ؟!.. "
ثم أعلن أن العبادة الحقة لله وحده ، فقال : " أفّ لكم ولما تعبدون من دون الله .. أفلا تعقلون ؟!."
أما الكذبة الثالثة فقد كان إبراهيم عليه السلام – بعد أن نجّاه الله من النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فانقلبت عليه برداً وسلاماً- ذات يوم وزوجه سارة قد ابتعدا عن أرض الكفر والفساد ، ودخلا أرضاً يحكمها جبار من الجبابرة ، فأرسل إليه مخبروه أنّ ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء جمالاً وسمتاً ، فأرسل إليه ، فسأله عنها والشرر يتطاير من عينيه ، يريدها لنفسه . فإن قال إبراهيم : إنها زوجتـُه قتله وأخذها .فقال : إنها أخته ... فقال الجبار : أريدها إذاً .
فانطلق إبراهيم إلى سارة ، فقال لها : ليس على وجه هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك ، فأخبرتُه أنك أختي ، وأضمرتُ الأُخُوّة في الله ، فلا تُكذّبيني .
فأرسل الجبار إليها ، فلما مثلت بين يديه مدّ يده إليها ... فتوقفت يده كأنها قطعة خشب ، لا يستطيع لها حراكاً ... قال لها : ادعي الله لي ، ولا أضرك ، فدعت الله تعالى ، فأُطلقت يدُه بإذن الله تعالى ... لكنّ شيطانه وسوس له أن يحاول كرّة أخرى ، ففعل ، فأصابه أشدُّ ما أصابه في المرّة الأولى ، فناشدها الله أن تدعو له ، ولن يعود إليها . فدَعَتْ ، فأُطلقتْ يدُه ..
فدعا الجبار بعض خدمه ، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان – وتناسى أنه هو الشيطان – أعيدوها ، وهبوا لها هاجر خادمة لها .
فجاءت سارة إلى إبراهيم وهو يصلي ، فأومأ بيده إليها يسألها عن حالها – لم يستطع الانتظار ، فالأمر جد خطير – فقالت مقالة المؤمن الواثق بربه : ردّ الله كيد الكافر .

صحيح البخاري ج 3
كتاب بدء الخلق : باب قول الله تعالى :
واتخذ الله إبراهيم خليلاً
 








قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة السابعة والثلاثون
أهل الفردوس الأعلى
 

صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العصر بأصحابه ، ثم سبّحوا ، وحمدوا الله تعالى ، وكبّروا ، ثم سألوا الله تعالى العافية في الدنيا ، وسألوه الجنة في الآخرة ، ولم يقم أحد منهم ، فقد رأوا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسامة تُشيع في نفوسهم الاطمئنان ، وكأنه سمع منهم دعاءً سره ، فأراد أن يحدثهم ليسرّهم كذلك ، فابتسموا له صلى الله عليه وسلم ، ورنت إليه عيونهم وقلوبهم ينتظرون ما يقول .
قال : أراكم تسألون الله تعالى الجنة ، أفتعلمون ما فيها ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : قال الله تعالى : أعددت لعبادي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر
.
اقرؤوا إن شئتم " فلا تعلم نفس ما أُخفيَ لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون " .
قالوا : فمن أول الداخلين إليها ؟.
قال : أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر .
قالوا : ثمّ مَنْ ؛ يا رسول الله ؟ .
قال : والذين على إثرهم كأشد كوكبٍ إضاءةً .
قالوا : فما صفات هؤلاء وهؤلاء ؟.
قال : قلوبهم تملؤها المحبة ، وكأنهم على قلب رجل واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، لا يبصقون فيه ، ولا يتمخّطون ، ولا يتغوّطون ، آنيتُهم فيها الذهب ، أمشاطُهم من الذهب والفضّة ، يتبخرون بعود الصندل ، وعرَقـُهم المسك الزكيّ الرائحة ، ولكل منهم زوجتان يُرى مُخّ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن ، يسبحون الله بُكرة وعشيّاً .
قالوا : أهم كـُثـُرٌ ؛ يا رسول الله ؟.
قال : سبع مئة ألف . لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم. فأبواب الجنة عريضة تضمّهم جميعاً ،
يدخلون بغير حساب .
قال عُكّاشة بن مِحصن : ادع اللهَ ؛ يا رسول الله أن أكون منهم .
قال : أنت منهم . ... فانتعشت أوصال عُكّاشة ، وحمد الله وكبّر ، فليس من بشرى أفضل من هذه
البشرى .
قالوا : فزدنا توضيحاً يا رسول الله .
قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلالها مئة عام لا يقطعها ! ، واقرأوا إن شئتم "
وظلٍّ ممدود " ولَقابُ قوسِ أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربتْ ، وإن
موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها .
قالوا : أمنازل المؤمنين فيها متساوية ؟.
قال : لا ، إن أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرف من فوقهم كما ينظر أحدكم إلى الكوكب الدريّ
العالي في كبد السماء شرقاً وغرباً ، إن مقام أهل الفردوس الأعلى عظيم عظيم .
قالوا : لعل تلك المنازل تخص الأنبياء فقط ؟.
قال : لا ، والذي نفسي بيده ! إنها منازل رجال آمنوا بالله ، وصدّقوا المرسلين .
رفع المسلمون أيديَهم إلى السماء ، وقالت قلوبهم قبل ألسنتهم :
اللهم ؛ يا ربنا : أمنا بك إيماناً يزداد بك يقيناً ، وصدّقنا رسولك الكريم ، فاكتبنا في أهل
الفردوس الأعلى ، وارزقنا الغـُرف في علـّيـّيـن .
آمين ، يا رب العالمين .

صحيح البخاري ج/ 4
كتاب بدء الخلق ، / باب ما جاء في صفة الجنة
 












قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الثامنة والثلاثون
موسى عليه السلام
 

1) اُرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام ( ليقبض روحه) ، فلمـّا جاءه صكّه موسى
( دفعه بقوة ولطمه) .
لم يقبض ملك الموت روح موسى عليه السلام لمكانته ، فالأنبياء يُخيّرون في موتهم . رجع ملك الموت إلى ربه سبحانه يقول له – والله أعلم بما جرى - : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت .
قال تعالى : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور ، فله بما غطّت يدُه بكل شعرة سنة ( تزيد في عمره )
قال موسى حين سمع ملك الموت يخبره بما قاله الله تعالى : أيْ ياربّ ؛ ثم ماذا؟
قال تعالى : ثم الموت . ..
كل نفس ذائقة الموت ، ولا بد مما ليس منه بد ، ولا يبقى إلا وجه الله الكريم سبحانه .
قال موسى : فالآن أريد الموت ، فما فائدة تأخيره إن كان حتماً لا زماً ؟ ولكنْ يارب أسألك أن تُدنيني من الأرض المقدسة رمية حجر .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت ثـَمّ ( هناك في الأرض المقدسة ) لأريتـُكم قبره إلى جانب الطريق ، تحت الكثيب الأحمر ".
2) تخاصم رجل من المسلمين ورجل من اليهود فاستبّا ( سب كل منهما صاحبه ).
فأقسم المسلم قائلاً : والذي اصطفى محمداً على العالمين .
وأقسم اليهودي قائلاً : والذي اصطفى موسى على العالمين .
فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهوديّ ، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو المسلم إذ اعتدى عليه ، وأخبره بما كان منه ومن المسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تُخيّروني على موسى أو قال : لا تفضّلوا بين
أنبياء الله ، فإنه يُنفخ في الصور ، فيُصعق من في
السموات والأرض إلا من شاء الله ، ثم يُنفخ فيه
أُخرى ، فأكون أول من بعث ، فإذا موسى آخذ
بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور
، أم بُعث قبلي "
3) وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
احتجّ آدم وموسى ،
فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة .
قال له آدم : أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، ثم تلومني على أمر قد قُـُدّر عليّ قبل أن أُخلق؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سرد ما قاله النبييان الكريمان :
فحجّ آدم موسى مرتين . ( كان جوابه مفحماً )
تشوق الصحابة الكرام لمعرفة هذين الأمرين ، فاشرأبّت أعناقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشرفون الجواب الشافي
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
المرة الأولى : أن آدم وصف موسى وصفاً رائعاً ( اصطفاه الله برسالته وكلمه ) فما ينبغي له إلا كلام الأنبياء .
المرة الثانية : نبهه إلى أن الإنسان يُلام على شيء فعله بملء إرادته ، أما خطيئة آدم فقد قدّرها الله عليه قبل أن يُخلق ، فلا ذنب له في ذلك .
مشيناها خُطاً كُتبتْ علينا ومن كُتبت عليه خطاً مشاها

صحيح البخاري ج 4
كتاب بدء الخلق –باب وفاة موسى
وباب قوله تعالى : " وإن يونس لمن المرسلين "
 












قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة التاسعة والثلاثون
صورتان من المروءة
 

قال الأب لابنه : كن من أصحاب المروءة ؛ يا بني .
قال الابن : وما المروءة يا أبتِ ؟
قال الأب :
المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات . من حازها كان رجلاً كاملاً ، ومؤمناً صادقاً ، لا يعرف من الشيم إلا أحسنها ، ومن الحياة إلا أشرفها .
قال الابن : جزاك الله خيراً ؛ يا والدي ، أفلا ذكرتَ لي بعض صورها ؟.
قال الأب : لك ذلك يا ولدي الحبيب .
أما الصورة الأولى : فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حق أخيه موسى عليه الصلاة والسلام .
قال الابن : كلي آذان صاغية يا أبي ومعلمي ، فهاتها حفظك الله ورعاك .
قال الأب :
رأى عيسى عليه السلام رجلاً يسرق ، فألطف له في الكلام معاتباً ومعلماً ، ونبهه إلى أنه يراه يسرق ... فما كان من الرجل إلا أنه أنكر فعل السرقة ، وأقسم بالله كذباً ومَيْناً ، فقال : كلا ، والله الذي لا إله إلا هو ، ما سرقت .
إن لفظ الجلالة عند أصحاب المروءة وأهل الإيمان مقدس ، فلا يتصورون أن يحلف به الإنسان كاذباً ، وإن كانوا متيقنين من كذبه وسوء فعلته .
عندما سمع عيسى عليه السلام الرجل يقسم أنه لم يسرق تناسى تماماً هذا الأمر ، وقال كلمته التي تلقفها الدهر ، وكتبها بأحرف من نور في سجل سيدنا عيسى ، فصارت خالدة مدى الدهر :
" آمنْتُ بالله وكـذ ّبْتُ عيني "
قال الابن : ما أعظم أهل المروءة ، وما أرهف إحساسهم !.
قال الأب :
وصورة آخرى رائعة تدل على دقيق شعورهم .
هذا رجل كان في شبابه نبّاشاً للقبور ، يعتدي على حرمة الأموات ، فلما حضره الموت ، وتذكر ما كان يفعله أوصى أهله ، فقال :
إذا أنا مِتّ فاجمعوا لي حطباً كثيراً ، وأوقدوا فيه ناراً ، حتى إذا أكلت النار لحمي ، وخلصَت إلى عظمي ، فأحرقَـَتـْه فخذوا عظامي ، فاطحنوها ، ثم انظروا يوماً حارّاً شديد الرياح ، فاذ روه في اليم . ...ففعل أولاده ذلك .
إن الله تعالى القادر على خلقه من نطفة جمعه ثانية ، فقال له : لِم فعلتَ ذلك ؟ .
قال الرجل : من خشيتك يا ربّ ، لقد كان ذنبي عظيماً .
وعرف الله تعالى عميق إحساس الرجل بالذنب وخوفـَه من العقاب المرعب حين يقف أمام رب العزة القادر على كل شيء ، فغفر له وتلقـّاه برحمته .
اللهم ؛ يا رحمن؛ يا رحيم ؛ يا غافر الذنب ، وقابل التوب ؛ ارحمنا إذا صرنا إليك ، وتب علينا ، فررنا إليك من عذابك ، ولجأنا إليك من عقابك ، وأنت اللطيف الودود ..
أفر إليك منك ، وأين إلاّ إليك يفر منك المستجيرُ

صحيح البخاري
كتاب بدء الخلق
باب " واذكر في الكتاب مريم "

 














 قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم 
القصة الأربعون
أبونا آدم عليه السلام
 

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه يسألونه عن الأنبياء الكرام وصفاتهم الخُلُقية والخَلْقية ، وعن أقوامهم ، ومن صدّقهم ، ومن كذ ّبهم ... ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبهم ، ويزيدهم ما ينفعهم ، ويشحذ قرائحهم ، ويقوّي الإيمان في نفوسهم ، ويُطَيـّبها .
قال عليه الصلاة والسلام :
خُلِق آدم وطوله ستون ذراعاً .. إنها قامة فارعة ، تسامق الأشجار العالية طولاً ، وتسمو على الحصون والقلاع ارتفاعاً .
قالوا : يا رسول الله ؛ فما بالنا أقصر منه بكثير ؟.
قال عليه الصلاة والسلام : لم يزل الخلق ينقصون جيلاً بعد جيل حتى وصلنا إلى ما نحن عليه .
قالوا : فكيف يكون المؤمنون في الجنة إزاءه عليه السلام والأجيال السابقة ؟.
قال عليه الصلاة والسلام : كل من يدخل الجنة يدخلها على صورة أبيه آدم .
ثم أردف قائلاً :
لما خلق الله تعالى آدم نفخ فيه الروح فعطس ، فألهمه الله تعالى حمده ، فقال : الحمد لله .
فقال له ربه : يرحمك الله .
فذهب الحمد والرحمة أدباً عالياً يعيشه المسلمون في مجتمعاتهم ، فيكون حمد الله ورحمته شعارهم ومآلهم ، فإذا عطس أحدكم ، فحمد الله فشمّتوه ، واطلبوا له الرحمة والهداية ، فهذا من سنّتي .
قال عليه الصلاة والسلام : ثم قال الله تعالى لآدم :
اذهب فسلم على أولئك الجلوس من الملائكة ، وقل لهم : السلام عليكم .
فذهب فسلم عليهم ( السلام عليكم ) ، فقالوا له : وعليك السلام ورحمة الله .
قال تعالى : يا آدم ؛ أوَعَيْت ردّهم ؟
قال آدم : نعم ؛ يا رب .
قال تعالى : فإنها تحيتك وتحية ذرّيتك .... إنك سلمتَ عليهم ، فردّوا عليك السلام ، وزادوك إكراماً ، فسألوني أن أرحمك ، فلك ذلك .
وقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : " وإذا حُيّيتُم بتحية فحيوا بأحسن منها أو رُدّوها "
قال عليه الصلاة والسلام بعد أن رأى أصحابه منتبهين ، يتلقَّون كل كلمة بأُذُن واعية وقلب محبّ : ثم إن الله تعالى مسح على ظهر آدم ، فسقط من ظهره كلُّ نَسَمة هو خالقها من ذريّة آدم إلى يوم القيامة ، وجعل بين عينَيْ كل إنسان منهم بصيصاً من نور ، ثم قبضها بيده سبحانه .
قالوا : وكيف يقبض سبحانه الأمورَ بيده ؟.
قال عليه الصلاة والسلام : إن الله تعالى يقبض الأشياء كيف شاء ، متى شاء ، من غير تكييف ولا تمثيل – سبحانه – ليس كمثله شيئ ، وهو السميع البصير .
قالوا : آمنّا بالله سبحانه ، وتعالى ربنا عن الشبيه والمثيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
قال عليه الصلاة والسلام : فقال الله ويداه مبسوطتان : اختر أيهما شئت .
قال آدم بأدب جم علمه إياه ربه : اخترتُ يمين ربي ، وكلتا يدي ربي
يمين مباركة .
فيبسط الله تعالى يده ، فإذا فيها آدم وذريته ....
قال آدم : أيْ ربّ ؛ ما هؤلاء ؟
قال تعالى : هؤلاء ذريتك .
وينظر آدم عليه السلام إلى ذريته ، فإذا كل إنسان مكتوب عمُره بين عينيه .
ويلوح له فيهم رجل من أضوئهم ، فيخفق له قلب آدم حباً ،
فيقول : يا ربّ ؛ من هذا ؟
فيقول الله عز وجلّ : هذا ابنك داود ، قد كتبت له عمُر ستين سنة .
فيقول آدم : ربّ ؛ زد في عمُره ؟.
فيقول الله تعالى : هذا ما كتبت له ، وقدّرت.
فيقول آدم : كم كتبت لي من العمر ؛ يا رب ؟
فيقول الله تعالى : ألف سنة .
فيقول آدم : أيْ ربِّ ، فإني قد جعلت له من عمري أربعين سنة .
فيقول الله تعالى : قد أجزت لك ذلك .
فيًقدّر لداود مئة عام .
كل شيء مقدّر ومكتوب ... صُنع الله الذي خلق كل شيء ، فأحسن خلْقه ، وأبدعه وقدّره ، وهو يفعل ما يشاء ... يمحو الله ما يشاء ويُثبت ، وعنده أمّ الكتاب .
قال عليه الصلاة والسلام : ويسكن آدم وزوجه الجنة ماشاء الله ....
ويشاء الله أن يبتليه بعد ذلك ، فيأكل وحواء من الشجرة المحرّمة ، ثم يهبطان منها .
فكان آدم عليه السلام يَعُدّ لنفسه عمرها ......
فلما أتاه ملك الموت يريد استيفاء روحه قال له آدم :
قد عجلتَ ؛ قد كُتب لي ألف سنة ، فها انت تأتي قبل أربعين سنة .
يقول له ملك الموت : بلى ، ولكنك جعلت لابنك داود أربعين سنة ، فصارتْ إليه .
فجحد آدم ما جعله لداود ، وكان جحوده نسياناً ، وورث أبناؤه صفات أبيهم ، فجحدوا كما جحد ، ونسوا كما نسي ، فأمر الله تعالى بالكتابة والشهود ليواجه بها جحود الجاحدين ونسيان الناسين .

1-
البخاري المجلد الثاني الجزء /4/
كتاب : بدء الخلق
باب قوله تعالى
"
وإذ قال ربك للملائكة ....."
2-
سنن الترمذي ج3ص 52



















نقلا عن صيد الفوائد
نقلها لكم أخوكم بدر رمضان الحوسني وأسألكم الدعاء لجميع المسلمين الأحياء نتهم والأموات










Popular Posts

Theory of Change: Framework for Social Impactفهم الفرق بين المخرجات والنتائج أمر بالغ الأهمية لتحديد الأهداف واتخاذ القرارات وتقييم المشاريع والمبادرات بشكل فعال. وتمثل المخرجات النتائج الملموسة والقابلة للقياس التي تم تحقيقها في إطار زمني محدد،

أهداف و فوائد المجلة المدرسية

تعد المساءلة أداة فعالة لتحقيق تحسينات مستدامة في الأداء الأكاديمي داخل المؤسسات التعليمية. من خلال تنفيذ نظام مساءلة منظم وشفاف يشمل جميع الأطراف، يمكن للمدارس تعزيز التزام كافة الأطراف بأدوارهم في دعم تحصيل الطلبة وضمان بيئة تعليمية تضمن النجاح الأكاديمي المستدام.

أن تكون خارقًا لا يعني أن تمتلك قدرات خارقة للطبيعة، بل يعني أن تتحكم في حياتك، تحقق أهدافك، وتصل إلى أقصى إمكانياتك. كل شيء يبدأ من الداخل، من عقلك، أفكارك، وإرادتك. إليك خريطة طريق لتبدأ رحلتك لتكون خارقًا في حياتك:

تصنيف بلوم المطور باضافة الابداع وحذف التركيب

الإجراء القانوني المناسب والذي أقره قانون الدولة وفق قانون الجرائم و العقوبات ،تأكيداً على حماية السلامة العامة والنظام العام، نص القانون في مواده المختلفة على فرض عقوبات صارمة على الأفعال التي تعرض وسائل النقل العام للخطر أو تتسبب في تعطيلها، وعلى الاعتداء على الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون وأداء الخدمة العامة. يهدف هذا القانون إلى حماية المجتمع وتعزيز الأمان في مجالات المواصلات البرية، الجوية، والبحرية، والحد من التصرفات التي من شأنها أن تعرض حياة الأفراد للخطر أو تعرقل استمرارية الخدمات الحيوية.

2014 افضل الصور عليها حكم و اقوال مأثورة Best wise words