الوافد الحبيب


     يفد إلينا كل عام ضيف كريم ووافد عزيز ألا وهو شهر رمضان المبارك ، والناس إزاءه أنواع :
     فمنهم : من لا يرى فيه أكثر من حرمان لا فائدة منه ، وتقليد ديني لا مبرر له ، وقد تقدمت الحضارة وتطور الفكر الإنساني بحيث لا يسيغ - في زعمه - هذه القيود الدينية الثقيلة ، فهو عازم على الإفطار فيه ، مجاهر بذلك ، مستهزئ من الصائمين ، ساخر بعقولهم وتفكيرهم .
     ومنهم : من لا يرى فيه إلا جوعًا لا تتحمله أعصاب معدته ، وعطشًا لا تقوى عليه مجاري عروقهن ، فهو عازم على الإفطار مستخف فيه الناس ، متظاهر بالصيام أمام من لا يعرفه ، مجاهر به أمام من لا ينكر عليه .
     ومنهم : من يرى في رمضان موسمًا سنويًا للموائد الزاخرة بألوان الطعام والشراب ، وفرصة جميلة للسمر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر ، والنوم العميق في النهار حتى غروب الشمس ، فإن كان ذا عمل برم بعمله ، وإن كان ذا معاملة ساءت معاملته ، وإن كان موظفًا ثقل عليه أداء واجبه .
     ومنهم : - وهم الأقلون - يرون في رمضان شهرًا غير هذا كله ، وأجل من هذا كله .. يرون فيه دورة تدريبية لتجديد معان في نفوس الناس من : الخلق النبيل ، والإيثار ، والصبر الكريم ، والتهذيب الإلهي العظيم …
أما الذين لا يرون في الصيام انسجاماً مع تطور الحضارة فنحن نحيلهم إلى أطباء الأجسام والنفوس ليحدثوهم عما اكتشفه العلم الحديث من فوائد الصيام لا يجدها الناس في غيره .
     وأما الذين تنهزم عزائمهم أمام جوع الصيام وحرمانه وهم مؤمنون بفرضيته وقدسيته ، فنحن نذكرهم بأننا نعيش في قلب المعركة الفاصلة في تاريخ هذه الأمة ، وليس الصيام إلا صبر ساعات على أقل مظاهر الحرمان في الحياة من طعام وشراب ، فمن انهزم بينه وبين نفسه عن تحمل شدة الصبر ساعات من النهار ، فسيكون أشد هزيمة بينه وبين أعدائه عن تحمل قسوة الكفاح والنضال أيامًا وشهوراً وأعوامًا .. إن المنهزمين في ميدان صغير ليسوا أهلاً لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدان كبير . ومن أعلن استسلامه في معركة نفسيه تدوم ساعات ، فقد حكم على نفسه بفقدان أول خلق من أخلاق المكافحين وهو الرجولة ، ومن عز عليه أن يعيش في جو  الرجال أخرج نفسه من معارك الشهداء والأبطال .
     وأما الذين يرون في رمضان جوعًا في النهار ، ومتعة مادية في الليل .. أما جمهور المسلمين الصائمين فإليهم نوجه هذا الحديث ، وهم الذين نرجو أن ينفعهم الله بالصيام ، ويثبتهم عليه ، ويجزل مثوبتهم فيه .
     إن الأمم كالأفراد تحتاج في حياتها الطويلة إلى فترات من الراحة والهدوء ، تصلح فيها ما فسد من أوضاعها ، وتجدد ما كاد يبلى من مقوماتها ، وتعالج ما ساء من شؤونها . وهذه الفترات هي اللحظات الفاصلة في تاريخ الأفراد والجماعات ، فإن عرفت كيف تستفيد منها ، كانت مفتاحًا لكل خير تناله في المستقبل ، ولكل نصر تحرزه في المعارك ، ولكل خلود تسجله في التاريخ .
     ورمضان هو  الفترة الروحية التي تجد فيها الجماهير ، والأفراد فرصة لإصلاح تاريخها .
إن رمضان محطة لتعبئة القوى النفسية والروحية والخلقية التي تحتاج إليها كل أمة في الحياة ، ويحتاج إليها كل فرد في المجتمع . . إنه يمنحنا فيما يمنح ، تذكيرًا بالحق الذي تقوم عليه السموات الأرض عليه ، وتخلقًا بالقوة التي لا تنتصر أمة بدونها ، وشغفًا بالحرية التي لا تتم الكرامة الإنسانية إلا بها .
     " حق ، وقوة ، وحرية " هذا هو بعض ما يمنحنا رمضان في أيامه الجائعة العطشى .. وما رأيت في حياتي صائماً يفهم معنى الصوم ، ويتحقق بحكمته وفلسفته إلا مناضلاً في سبيل الحق لا تلين له قناة ، قويًا في حلبة الصراع  لا ينهزم  ،  حراً بأكرم معاني الحرية لا تعلق به ذلة ولا عبودية .
إن المسلم الصائم طواعية وعبودية لله ، وخضوعًا لجلاله ، ورجاء للقرب منه والأنس بحضرته ؛ يرى الأنانية والاثرة العزلة والانقطاع عن مشاركة المجتمع في آلامه وأحزانه
يرى في ذلك كله باطلاً ما أحراه أن يرتفع عنه وينتصر  عليه .
ويرى الأهواء والشهوات والظلم والبغي والعداوة والبغضاء ضعفًا يقتل روح الأمة ما أجدر به أن يثور عليه ويقف دونه .
     يرى في لذة المناجاة مع الله ، وتنفيذ شرعه فيما نهى وأمر : حرية تنأى به عن العبودية لغير الله من طعام وشراب ولذة وطمع وأماني كاذبة . فهو الحر دئمًا وأبدًا ، هو الحر الذي لا تتجلى حريته على الانتقال من مكان إلى مكان ، بل في القدرة على أن يتحكم في عواطفه وميوله ، فيحبس عنها ما يشاء ويطلق منها ما يشاء .
إنه هنا حر الروح ولو أطبقت عليه الجدران ، حر الفكر ولو عاش في أرض فقر ، حر الإرادة ولو كبل بالحديد .. وهذه لعمري هي الحرية التي تليق بكرامة الإنسان ، وأين منها حرية الأشباح والأجسام .
     هذا الفهم الدقيق لرمضان وفلسفته هذا التخلق الكامل بالصيام وآدابه ، سجل تاريخنا القديم والحديث من النصر في معارك الحق آيات بينات ، وترك للإنسانية من أبطال الإصلاح والحكم والعلم أعلامًا شامخات …
     فترون المسلمين يوم بدر ، وقد كانت في اليوم السابع عشر من رمضان ، أفترونهم يومئذ خاضوا المعركة في قلة من العدد والعُدد ثم انتصروا على أقرانهم من أبناء عمومتهم ومواطنيهم نصرًا مؤزراً خلده القرآن في محكم آياته …
أفترونهم استطاعوا أن يحرزوا هذا النصر لولا أن الصيام بث فيهم من القوة ونصرة الحق والحرية الكاملة ما جعلهم يخوضون المعركة أقوياء أحرارًا ؟ .. إن بطشوا بقوة الله ، وإن رموا بعزة الله ، وإن صالوا وجالوا كانت قوة الحق وإشراقة الروح هي التي تسدد لهم الهدف ، وتدلهم على مقاتل الأعداء ‍!
      هل ترون معاركنا التي انتصرنا فيها في اليرموك والقادسية وجلولاء وحطين وغيرها .. هل كانت تتم بهذه الروعة المعجزة التي لا تزال تذهل كبار الباحثين في أسراراها ، لولا أن أهلها كانوا يتخلقون بخلق الصائمين : من عفة وسمو ، وتضحية وفداء ، وتحمل للشدائد ، وخضوع لله واستعلاء على كل ما سواه ، واستهزاء بقوى الباطل مهما كثرت ؟ .
     لك أنهم وصلوا أرواحهم بقوة الله ، ومن ذا الذي يغلب الله ، والله غالب على أمره ؟
وبعد ، .. فالذين يستقبلون رمضان على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي . وتلاوة للذكر باللسان ، ونوم في المساجد في النهار ، لن يستفيدوا منه …
وأما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان وتهذيب الخلق ، وتقوية الروح ، واستئناف حياة أفضل وأكمل هم الذين يستفيدون منه ..
 هم الذين تفتح لهم أبواب الجناب في رمضان ، وتغلق عنهم أبواب النيران ، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشرى والسلام . هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان . مغفورة لهم ذنوبهم ، مكفرة عنهم سيئاتهم ، مجلوة بنور الله قلوبهم ، مجددة بقوة الإيمان عزائمهم …
     هؤلاء .. هؤلاء هم الذين تصلح بهم الأوضاع وتكسب به

 الدكتور مصطفى السباعي


Post a Comment

Previous Post Next Post