Skip to main content

السبب هو أن جميع تقاريرك المرفقة في الملف، عن خبرتك العملية التي مضى عليها عشر سنوات.. كلها بامتياز.. ليس فيها ملاحظة واحدة أو تجربة خاطئة أو لحظة فشل.. وهذا يدل على أنك لم تتول المسؤوليات بشكل مباشر وجاد.. وأنك كنت تتلقى تعليمات رؤسائك وتنفذها بشكل آلي أو حرفي.. وهم لهذا أبدوا إعجابهم التام بك.. ولم يصلك أي خطاب تأنيب على قرار فشلت فيه، أو موقف لم تنجح في معالجته.

الفاشل من يُلقي فشله على غيره

نتيجة بحث الصور عن صور متحركة

عبدالله الجعيثن


في أدبيات كتب الإدارة الأمريكية أن شاباً في الثلاثين تقدم لوظيفة مرموقة في شركة كبرى واجتاز جميع الامتحانات الأولية بنجاح ولم يبق عليه إلا مقابلة رئيس مجلس الإدارة والتي كانت ضرورية لأن الوظيفة هامة جداً.
ودخل الشاب الأنيق على رئيس مجلس الإدارة المسن والمحنك، وتحدث معه قليلاً، ثم أخذ يقلب ملفه العملي ورقة ورقة بإمعان، ثم قال:
  • لا أستطيع قبولك في هذه الوظيفة بسبب واحد قد تستغرب منه.
فقال الشاب:
  • وما هو يا سيدي؟
فقال الرجل المحنك:
  • السبب هو أن جميع تقاريرك المرفقة في الملف، عن خبرتك العملية التي مضى عليها عشر سنوات.. كلها بامتياز.. ليس فيها ملاحظة واحدة أو تجربة خاطئة أو لحظة فشل.. وهذا يدل على أنك لم تتول المسؤوليات بشكل مباشر وجاد.. وأنك كنت تتلقى تعليمات رؤسائك وتنفذها بشكل آلي أو حرفي.. وهم لهذا أبدوا إعجابهم التام بك.. ولم يصلك أي خطاب تأنيب على قرار فشلت فيه، أو موقف لم تنجح في معالجته.
إنني أفضل شاباً مَرّ بمواقف فشل ثم اجتازها بنجاح على شاب لم يفشل على الإطلاق.. الأول يعمل ويتحمل المسؤولية ويخطئ ويستفيد من أخطائه ويتقدم بالتدريج، ولكن بثبات محملاً بحكمة دروس الفشل.. وهو لن يهاب مواجهة المسؤولية.. ولن ينتظر التوجيه من رؤسائه في كل أمر، والوظيفة التي تقدمت لها قيادية تحتاج إلى من خاض غمار الفشل ليصل إلى ذروة النجاح.. ولا يكفيها مجرد مُنَفِّذ لتعليمات الرؤساء بالمسطرة، إن عدم وجود نقاط فشل في ملفك يجعلني آسفاً أرفض قبولك لمثل هذه الوظيفة الهامة.
٭٭٭
قلت: وما ورد مغزاه صحيح.. فإن القوة الذاتية في الإنسان تتراكم عبر تعلمه من أخطائه وفشله في بعض المراحل.. ولا يمكن أن توجد (قوة ذاتية) في إنسان لم يفشل أبداً.. لأن الذي لم يفشل أبداً لم يعمل عملاً حقيقياً أبداً.. وإنما كان ينفذ ما يُؤمر به بشكل حرفي.. هو دقيق في التنفيذ ولكنه غير ممتلئ من الداخل ولا محصن ضد مختلف المواقف والتغيرات والتحديات لأنه لم يمر بها من قبل ولم يواجهها ويعالجها فيفشل في ذلك مرة أو مرتين أو ثلاثاً وينجح عشرات المرات، وقد بنى نجاحه على دروس فشله، وكسب في داخله الإحاطة بجميع المحاذير والظروف، والمحاذير هي أهم ما يواجه أصحاب القرار.. فإن كل قرار قوي له وجه براق إذا لم ننظر إلى محاذيره.. الذي اعتاد على مجرد التنفيذ الروتيني الدقيق هو آلة صالحة للعمل.. ولكنه ليس آلة صالحة للسير إلى الأمام بقوة وثبات مهما واجه من عقبات.. الأول يشبه الرسول الذي يحمل رسالة من رئيسه أو يبلغ توجيهاته وينفذها.. ليس على الرسول ذنب.. وليس للمنفذ مسؤولية تحملها، وبالتالي فإنه في الواقع لم يواجه القرارات التي قد تفضي إلى الفشل أو النجاح في القرار، لأنه لا يتخذها أصلاً، ولهذا تظل خبرته بالأعمال خاصة وبالحياة عامة محدودة جداً، وقدرته على اتخاذ القرار شبه معدومة لطول ما اعتاد على التنفيذ فقط ولم يتدرب على اتخاذ القرار ورؤية عواقبه على الطبيعة وما ترتب عليه - أثناء التنفيذ - من عواقب حسنة أو سيئة، وما وُجد بعد تنفيذ القرار من محاذير قد تجعله يتراجع عن قراره ويعلن بشجاعة فشله في اتخاذ ذلك القرار، وقد عرف بذلك مواطن قوته وضعفه، واستوعب الظروف التي جعلت ذلك القرار يفشل حين التطبيق وكان يوحي بنجاح تام في الدراسة النظرية.
وكل إنسان في هذه الدنيا صاحب قرار، مهما كان الإنسان أو القرار، فهو يختار نوع دراسته ونوع عمله وأهدافه بقرارات مدروسة أو غير مدروسة، معلنة أو خافية، المهم أنها قرارات جعلته يسير في هذا الدرب.
والإنسان لن يتعلم إلا بالممارسة والتجربة.. وكل ما يتعلمه الإنسان سوف يبدأ بشكل متواضع، ومُعرَّض لأخطاء كثيرة، وفشل في عدة نقاط، ولكن التكرار والمثابرة والاستفادة من الأخطاء السابقة والمواقف الفاشلة هي التي تسدد خطاه وتقوي ساعده وتثري تجربته وتمنحه القدرة الذاتية والتي هي أهم القدرات.
ولو نظرنا إلى بدايات الإنسان في كل الأمور لوجدناه يبدأ بمحاولات فاشلة - أو تبدو هكذا - ولكن تلك المحاولات الفاشلة هي التي تجعله يصعد السلم درجة درجة، يتعثر في درجة، ويسقط ويرجع للوراء، ثم يبدأ من جديد وهو أكثر فهماً وحكمة واستفادة من الفشل السابق.
الطفل أول ما يتعلم المشي يقوم بضعف، ويسقط، ويقوم ويسقط، وفي البدايات يكون سقوطه أكثر من اعتداله، حتى يتعلم من سقوطه ويتقوى مع محاولاته فيتقن المشي.. وقل مثل هذا عن الكلام.. فإن الطفل يطلق كلماته الأولى مبهمة فاشلة في التوصيل وإن كانت مفرحة للوالدين ولذيذة على السمع، ومع التكرار والتعلم من الأخطاء يفصح بالتدريج.
وأمام مدرسة الحياة (العملية) يدخل الناس الأعمال - أول مرة - فالأطفال، يتعلمون بالتدريج، ويواجهون في البدايات كماً من الفشل يفوق النجاح، ولكن هذا الكم من الفشل هو الذي يعلمهم طريق النجاح، ويدلهم على الدرب الصحيح، في سلسلة متواصلة من التجارب يختلط فيها الفشل بالنجاح حتى يتبين هذا من ذاك بوضوح، وبمجرد أن تظهر أسباب الفشل أثناء التجارب ويعرفها الإنسان فإنه يعرف تلقائياً أسباب النجاح، فبضدها تتبين الأشياء، وما النجاح إلا مجموعة من التجارب الطويلة المتراكمة كان للفشل دورٌ عظيم في جعلها تستقيم، وفي هذه التجارب لا يكتشف الإنسان أسباب الفشل والنجاح في العمل بشكل مجرد فقط، بل يكتشف ما هو أهم وهو معرفته لقدراته وميوله وما الذي يُحسنه ويتقنه وما الذي يصعب عليه إتقانه مهما جرب وحاول.
وقد كان الأصمعي من أكثر رواة الشعر، وكان يحفظ أشعاراً لا تُحْصَى، ولا يكسر وزن الشعر إذا أنشده، ولكنه كان فاشلاً في علم العروض لا يفهمه فضلاً عن أن يتقنه، وكان الخليل بن أحمد - واضع علم العروض - معاصراً له، فطلب منه الأصمعي أن يعلمه العروض ويعطيه دروساً فيه، ورحب بذلك الخليل، وكان الخليل رجلاً فاضلاً صبوراً حكيماً، فأخذ يشرح للأصمعي عدة أيام كيف توزن الأبيات وما هي البحور والزمانات والعلل ومبادئ علم العروض، ولكن بدون أن يجد جدوى، أو يحس أن الأصمعي - على براعته في حفظ الشعر وروايته - قد استوعب ما يقول أستاذه.
فقال له الخليل بذكاء: زن هذا البيت من الشعر يا أصمعي:
إذا لم تستطعْ شيئاً فَدَعْهُ
وجاوزه إلى ما تستطيعُ
ولم يستطع الأصمعي تقطيع وزن البيت ولكنه استطاع فهم حكمته فكف من محاولة دراسة علم العروض، واكتفى بما رزقه الله من مواهب جعلته ينجح في الرواية والحفظ، وأدرك أن الإنسان لا يمكن أن يلم بجميع العلوم وينجح فيها أو أن يكون موهوباً في عدة أمور، وأنه يُحسن به أن يكتشف - مع التجربة - المواهب الحقيقية في داخله، وما هو مؤهل له وقادرٌ عليه، فيركز في هذا المجال ويتعمق فيه مروراً بسلسلة الخطأ والصواب والفشل والنجاح ثم الجيد والأجود والمتقن والأكثر إتقاناً حتى يتشرب النجاح في هذا الاختصاص ويجد متعة بالغة في ممارسته والتقدم فيه والتفنن في إتقانه.
إذن فإن الفشل هو أكبر مُعَلِّم لمن يستفيد من دروسه.. وهذا الفشل إيجابي جداً ويدفع الإنسان إلى الأمام.
٭٭٭
أما الفشل السلبي، والحقيقي، فهو أن يستسلم الإنسان للفشل ملقياً أسبابه على غيره ومانحاً نفسه البراءة.
وهناك كثير من الشماعات يلقي عليها الفاشلون أسباب فشلهم فمنهم من يدعي أنه عبقري ولكنه فشل بسبب الحظ الردئ، ومنهم من يدعي أنه مؤهل للنجاح بقوة لولا تسلط رئيسه عليه - ومنهم من يتهم مجتمعه كله بأنه هو سبب فشله، ومنهم من يلقي ويلات فشله وسخطه على أبيه المسكين - الذي لا يريد له إلا كل خير - فيعتقد مجاهراً أو في داخل نفسه أن أباه ظلمه وأنه هو سبب فشله وتأخره.
هذا هو الفشل السلبي والمدمر إذا استمر، لأنه يشد قدرات صاحبه، بسبب أنه لا يفكر في مدى هذه القدرات وكيف يحسنها ويثابر على تنميتها، بل يستبدل ذلك بإلقاء اللوم على الآخرين مفضلاً براءة نفسه والركون إلى كسله وتحميل الآخرين مسؤولية فشله كاملة بكل أبعادها وأسبابها، وبدل أن يعمل لتخطي عقبات الفشل والسير خطوات في درب النجاح يعمل على تعليل فشله بأسباب كثيرة تُصب في معنى واحد هو إلقاء اللوم على الآخرين أو الظروف، أما هو فبريء من الفشل براءة الذئب من دم ابن يعقوب بل في زعمه مؤهل لكل النجاح والتقدم والتفوق على الآخرين ولديه مواهب مضطهدة بسبب هؤلاء أو بسبب الخطر أو الظروف.
ويشبه هذا الشاعر الذي قال:
تقلدتني الليالي وهي مُدْبَرةْ
كأنني صارمٌ في كفِّ مُنْهَزم
فهو يعتبر تأخره وانهزامه في معركة الحياة والنجاح بسبب الظروف والزمن وليس بسببه هو.. حاشا وكلا.. فهو يشبه نفسه بالسيف الصارم، ولكن الليالي تقلدت هذا السيف الصارم وهي فارَّة، فما ذنب السيف؟
إنه صارم حازم ولكنه كالسيف في يد الجبان لا يغني ولا ينفع لأن الجبان فَرَّ من المعركة فالذنب له وليس للسيف الذي معه.
وكثير من الفاشلين يعتبرون أنفسهم كالسيوف الصارمة في أيدي جبناء منهزمين، وهؤلاء الجبناء لهم أسماء وهمية عديدة حسب «عقدة الاضطهاد» التي استبدل بها الفاشلُ روعة العمل والصبرَ على العمل، فمن الأسماء الوهمية لتبرير الفشل بمبرر خارجي وتزكية النفس وتبرئتها الحظ والظروف والرؤساء والآباء.. و.. و.. إلى آخره.
مع أن كثيراً من الناجحين حوله يعيشون نفس ظروفه.. أو أسوأ منها.. وقد يكون من بين الناجحين جداً إخوانه الأشقاء ولكنه لا يعترف بكل هذا لأنه «يعرف» أن له وضعاً أو أوضاعاً خاصة واجهها من أهله أو مدرسيه أو رؤسائه أو أي شماعة يُلقي عليها أسباب فشله ويجعلها مبرراً لعزوفه عن الصبر والمثابرة والكفاح وتفضيله الكسل والجدل والكلام الذي لا نفع منه ولا خير فيه.. ولا يزيده إلا إحباطاً وحقداً على الناس.
٭٭٭
إن النجاح في أي عمل أو مجال يقتضي المثابرة والصبر والاستفادة الجادة من مواقف الفشل بحيث تزيد الإنسان بصيرة وقوة بدل أن تجعله يضعف وييأس ويلقي اللوم على الآخرين.
إنه ليس للإنسان إلا ما سعى.


المصدر الرياض

Comments