ندوة لاتحتقر مقترف الذنب

ذاعية - إذاعة دار الفتوى - منهج التائبين - الحلقة 19- 30: الآمر بالمعروف لا يحتقر مقترف الذنب1.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2001-12-15

بسم الله الرحمن الرحيم

 المذيع:
 بسم الله، والحمد لله، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى صحبه ومن والاه، اللهم إنا نحمدك حمداً يوافي نعمك، ويكافئ مزيدك، نحمدك على نعمة الإيمان والإسلام، وكفى بها نعمة، أرحب بكم مستمعينا الكرام بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب في مستهل هذا اللقاء بفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أحد أكبر علماء دمشق ودعاتها، أهلاً ومرحباً بكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 
 الأستاذ:
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
 المذيع:
 فضيلة الشيخ ما زلنا في الحديث عن التوبة النصوح، وما يرافقها من موضوعات يجب أن نسلط الضوء عليها، وخاصة في الحياة اليومية للمؤمن، والمسلم الذي عليه واجب وفرض عيني أن يدعو إلى سبيل الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ماذا يفعل إذا صادف أحدهم أخاه يقترف ذنباً من الذنوب ؟ كيف يعالج هذا الموقف، وبماذا ينصح ؟ وما هي الطريقة المثلى للأمر بالمعروف هنا ؟
 الأستاذ:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 الحقيقة أننا وصلنا من خلال حلقات سابقة إلى أن تأخير التوبة ذنب أيضاً يضاف إلى الذنب الذي ينبغي أن تتوب منه، وأن عدم إنكار المنكر منكر آخر يضاف إلى المنكر، لكن اليوم القضية تختلف.
 أنا ـ والحمد لله ـ مؤمن، لي صديق، لي أخ، لي قريب، لي جار، لي إنسان يلوذ بي، يقترف ذنباً المرة تلو المرة، أنا ماذا ينبغي أن أفعل ؟ الحقيقة أن هناك حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله يقصم الظهر، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ ))

(سنن الترمذي)

 الإنسان أحياناً تأخذه العزة بالطاعة لا بالإثم، لك أن تعتز بطاعتك.
 يروى أن الإمام الحسن كان يمشي بإحساس عال جداً، قال له: أكِبرٌ يا رسول الله ؟ قال: لا هذا عز الطاعة.
 لك أن تعتز بطاعتك، ولكن هذه العزة بالطاعة لا تحملك على أن تحتقر عاصياً لله، لعل هذا العاصي يتوب بعد حين، ويسبقك، مادام قلبه ينبض، وفي عمره بقية فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، والإنسان حينما يتوب إلى الله قد يحرق المراحل حرقاً، لذلك قال بعض العارفين:  " رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً "، الذي يقترف ذنباً مغلوب على أمره، ويبكي أشد البكاء، ويندم أشد الندم، وتتمزق نفسه أشد التمزق، هو أقرب إلى الله من إنسان يطيع الله مع الكبر ! فالاستكبار ولو كان في الطاعة مرفوض عند الله، وصاحبه محجوب عن الله، فالعبرة أن أكون مع الله، وأنا في قمة الطاعة.
 الحقيقة أن الإنسان حينما يستقيم أمامه منزلق الغرور، أنا كنت أقول دائماً: بلوغ القمة صعب جداً، كأن القمة هي قمة جبل، والطريق إليه وعر، والصعود حاد، وصخور، وغبار، وأكمات وحفر، لكنك إذا وصلت إلى القمة يمكن أن تنزل منها في ثانية بسبب الغرور ! والغرور هو داء الناجحين في الحياة، حتى التائب ينظر إلى من حوله يراهم يقترفوا المعاصي يحتقرهم يعيرهم يستعلي عليهم، ثم يفاجئ أنه وقع في الذنب الذي اقترفوه.
 المذيع:
 قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ ))

 هذا معنى دقيق جداً لهذه الآفة التي قد تصيب كثيرين حقيقة، ليتنا نفصل أكثر، لا تشجيعاً على المعصية، لنقل: ذلّ المعصية، وانكسار العاصي خير من استكبار الطائع، نركز على أن الطاعة فرضًا واجبًا، وصلة بالله عز وجل، ولكن إذا رافقها الاستكبار فهي مرفوضة.
 الأستاذ:
 سيدنا يوسف هو نبي ومعصوم، فحينما نجاه الله من مطب امرأة العزيز ماذا قال: هل قال: إن بإرادتي القوية امتنعت عنها ؟ هل قال: أنا بعلمي الغزير ؟ ما قال هذا، قال: 

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

(سورة يوسف)

 إنه استعان بحفظ الله له، أرأيت إلى هذا التواضع ؟ استعان بحفظ الله له، بتأييد الله له، هل من المعقول نبي كريم أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم أن يقول:

﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)﴾

(سورة إبراهيم)

 المشكلة أن هذا الذي يقترف المعاصي والآثام هو إنسان مثلنا، وقد يكون مفكراً، وعاقلاً، وذا ذكاء كبير، ولكن أنت حينما يعينك الله على طاعته ينبغي أن تذوب شكراً له، حينما يعينك الله على عمل صالح تذوب شكراً له، قلت لكم قبل قليل: سيدنا يوسف قال: 

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

 سيدنا موسى حينما سقى المرأتين ما قال ؟ هذا عمل عظيم أنا فعلته، أنا خططت له، أنا رتبته، أنا عندي خبرات متراكمة، لا، قال:

﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)﴾

(سورة القصص)

 الحقيقة، وأنا أحتاج أن أذكرها الآن: المؤمن أمام امتحانين دقيقين جداً، امتحان بدر وامتحان حنين، امتحان بدر الافتقار إلى الله:

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾

(سورة آل عمران)

 امتحان حنين قال أصحاب رسول الله، وفيهم رسول الله: لن نغلب اليوم مِن قلة، اعتدوا بقوتهم وبعدَدِهم، فقال تعالى: 

﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾

(سورة التوبة)

 أنا أستنبط أن كل مؤمن يعاني في اليوم الواحد ـ ولا أبالغ ـ مئات الامتحانات، في كل موقف تواجهه مشكلة، في كل أمر عصيب يعانيه، إذا قال: أنا، تخلى الله عنه، وأوكله إلى نفسه، وإذا قال: الله، تولاه الله، فنحن كل يوم بين التولي والتخلي، تقول: أنا، يتخلى عنك، تقول: الله، يتولاك، وأنا في قمة الطاعة، وفي قمة القرب من الله ينبغي أن أعترف أن هذا فضل من الله.
 هذا موقف الأنبياء، نبي كريم أكبر نبي أعده قدوة للشباب، سيدنا يوسف في موضوع معين متعلق بالمرأة، هو غير متزوج، والتي تدعوه إلى نفسها سيدته، وهي بارعة الجمال، وليس من صالحها أن يفوح هذا الأمر، ثم إنه غريب، والغريب يشعر بحرية في حركته، ثم إنه عبد، وغير متزوج، والتي دعته سيدته، العلماء عدوا أكثر من عشرة أسباب تعينه على أن يقترف هذا المنكر، فقال:

﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾

(سورة يوسف)

 الحقيقة أن الشاب أحياناً يؤخذ من المرأة، والرجل الكبير يؤخذ من المال، وأكبر معصيتين في الحياة معصية متعلقة بالمرأة، ومعصية متعلقة بالمال.
 المذيع:
 الكلام أيضاً ينسحب على النساء، معصية تتعلق بالرجل وهكذا، لأن الحديث عندما يطلق يطلق بالتخصيص.
 الأستاذ:
 قاعدة التغليب تجعل كل خطاب للرجال هو خطاب للنساء حكماً، إلا في حالات خاصة، هناك أحكام خاصة بالمرأة، أما إذا قال الله: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾

(سورة التحريم)

 أيضاً أيتها المؤمنات حكماً، فأنا أريد أنك إذا وفقت على توبة نصوح ينبغي أن تذوب شكراً لله على أنه امتن عليك بهذه التوبة، وعلى أنه أعانك عليها، وعلى أنه قبلها منك، وعلى أنه ثبتك عليها، هذه نعمة، لكن أحياناً شاب ليس ناضجاً يعينه الله على طاعة من الطاعات، فإذا رأى من حوله مقصراً فيها عيّره، واستعلى عليه ووبخه، بل الأغرب من ذلك يتألّى على الله، يقول له: لن يغفر لك هذا الذنب ! الغيب لا يعلمه إلا الله، سوف أذكر بعض الأحاديث الواجب أن أذكرها الآن:
 عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ

(( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ))

(صحيح مسلم)

 كلمة كبيرة أن تعتز بطاعتك اعتزازا غير طبيعي، وأن تحتقر من يعصي الله، وهو مغلوب على معصيته، لعل الله يقبل هذا العاصي يقبل توبته، ويغفر له، ولعل الله يحبط عمل المتكبر.
 أنا الآن أتكلم عن أخلاق التائب، ينبغي أن تكون أخلاقه مشبعة بالتواضع، ينبغي أن يره فضل الله عليه، وأن يعتقد اعتقاداً جازماً أنه لولا أن الله أعانه على هذه التوبة لما كانت هذه التوبة، ينبغي أن يشكر الله على أن بصره، وأعانه، وقبل منه، فإذا رأى إنساناً شارداً تائهاً ينبغي أن يأخذ بيده.
 أنا لا أنسى قول سيدنا عمر لأحد أصدقائه، وقد ترك الحجاز، وذهب إلى الشام، وعاقر الخمر، وتفلت من منهج الله، فكتب له كتاب: أحمد الله إليك، قابل التوب، غافر الذنب، شديد العقاب، ذي الطول، وما زال يستعطفه، ويذكره بماضيه حتى بكى بكاء شديداً، وأقلع عن ذنبه، وعلم عمر ذلك، فقال: هكذا اصنعوا مع أخيكم إذا ضل، كونوا عوناً له على الشيطان، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه. 
 فأنا حينما أتوب، وأشعر أن الله قَبِل توبتي ينبغي ألا أحتقر العصاة، ينبغي أن آخذ بيدهم، أنا أذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه شارب خمر، وقد أقذعوا له في القول، فقال: دعوه، فإنه يحب الله ورسوله، ما نفى عن شارب الخمر محبة الله، لكنه أكد أنه مغلوب على أمره.
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(( أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: اضْرِبُوهُ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ))

[البخاري]

 أنا أريد أن الأخ المؤمن إذا رأى عاصياً ينبغي أن يستوعبه، أن يكون له قلب كبير.
 المذيع:
 ما أحوجنا إلى هذه الأخلاق في هذه الأيام، والتكفير المجاني على مصراعيه، والكل يحقر الآخر بمعصيته، وهكذا الأمر، أصبح فوضى مطلقة إذا صح التعبير، فضيلة الشيخ أخلاق التائب، وعدم احتقاره لمعصية غيره هذا فضل عظيم يمن الله به على عباده التائبين الطائعين، الركع السجود، نفصل ذلك أكثر فأكثر في الحلقة المقبلة بإذن الله من برنامجنا منهج التائبين.
 أشكركم، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن متابعتهم، هذه تحية من فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، ومنا في برنامج منهج التائبين، حتى الملتقى مستمعينا الكرام في الغد لكم التحية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله رب العالمين

من موقع الشيخ الدكتور محمد النابلسي

Comments