لا تحارب النار بالنار ،دعوة إلى ثقافة الإنقاذ والدعم
إعداد: د. بدر الحوسني
في حياتنا اليومية، نواجه الكثير من التحديات
والصعوبات، بعضها يأتي على هيئة خلافات أو صراعات قد تجعلنا نشعر بالغضب أو
بالإحباط. وغالباً ما يكون رد الفعل الأول هو محاولة الرد بالمثل، فنحارب النار
بالنار. لكن، هل هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل؟ وهل ننتصر حقاً حين نتبع هذا
النهج؟
البشر بين الصلاح والشر
منذ الأزل، وُجد الإنسان على هذه الأرض يحمل في
داخله خليطاً من النوايا والأفكار، فمنهم من يسير نحو الصلاح والخير، ومنهم من
يميل إلى الشر. هذا التنوع البشري جزء من طبيعتنا، ولا يمكننا تغييره. ومع ذلك،
عندما نقابل الشر بالشر، فإننا نعرض أنفسنا والمجتمع للخطر، ونساهم في إشعال نار
الغضب والكراهية التي قد تلتهم كل من حولها.
ضرورة الابتعاد عن ردود الفعل المتسرعة
حين نختار رد الفعل الغاضب أو الانتقامي، فإننا
نخاطر بأن نفقد الهدوء والاتزان، ونسمح للمشاعر السلبية بالسيطرة علينا. قد يظن
البعض أن رد الإساءة بمثلها هو شكل من أشكال القوة، ولكن الحقيقة عكس ذلك؛ القوة
الحقيقية تكمن في القدرة على ضبط النفس، والتفكير بعقلانية قبل اتخاذ أي خطوة.
دروس من القرآن الكريم حول التسامح والعفو
في القرآن الكريم، نجد العديد من الآيات التي
تدعونا إلى التسامح والعفو والإحسان في التعامل مع الآخرين، ومن هذه الآيات:
1. الدعوة إلى دفع السيئة بالحسنة:
"وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"
(سورة فصلت: 34). هذه الآية تدعو إلى رد الإساءة بالإحسان، فذلك قد يحول العداوة إلى
صداقة ويقرب بين القلوب.
2. التسامح والعفو عن الآخرين:
"وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (سورة الشورى: 40). تشير هذه الآية
إلى أن العفو عن الإساءة والإصلاح بين الناس يعد من القيم العظيمة التي تكافأ من
الله.
3. الدعوة إلى الصبر وكظم الغيظ:
"الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"
(سورة آل عمران: 134). توضح هذه الآية فضل العفو وكظم الغيظ وتحث على التحلي بالصبر والإحسان
للآخرين.
4. الدعوة إلى العفو والمغفرة:
"وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (سورة النور: 22). هذه الآية تشجع
على العفو عن الآخرين وتذكير الناس برحمة الله ومغفرته، مما يحفز على التسامح بين
الناس.
5. التعامل بالحسنى والتقوى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"
(سورة الأحزاب: 70). توجيه المؤمنين إلى قول الكلمة الطيبة والموقف السديد في التعامل مع
الآخرين، مما يساهم في حل النزاعات بطرق حكيمة.
دروس من التاريخ: قوة التسامح على الانتقام
عند النظر إلى بعض من أعظم الشخصيات في التاريخ،
نجد أن التسامح والانفتاح على الحوار كانا من أسس نجاحهم. فالشخصيات المؤثرة مثل
غاندي ونيلسون مانديلا، تمكنوا من تحويل النزاعات الكبيرة إلى فرص للتغيير
الإيجابي، ليس من خلال الحرب أو العنف، بل من خلال اللجوء إلى الحوار، والتسامح،
ومد يد العون للخصوم. هذه القصص تلهمنا اليوم لتطبيق نفس المبادئ في حياتنا، سواء
في العلاقات الشخصية أو المهنية.
الإنقاذ والدعم في الحياة العملية
في بيئة العمل، يمكن أن تنشأ الخلافات بين
الزملاء، مما يؤدي إلى تدهور الروح المعنوية ويؤثر سلباً على الإنتاجية. بدلاً من
التصعيد أو الرد بالأسلوب نفسه، يمكن لقادة الفرق والعاملين تبني نهج الحوار
الإيجابي، حيث يقومون بحل النزاعات من خلال التفاهم والمشاركة. قد يكون توفير
برامج للدعم النفسي والتطوير الشخصي مثالاً فعّالاً على كيفية تحسين بيئة العمل
عبر استثمار الطاقة في مساعدة الآخرين بدلاً من معاداتهم.
دور الأسرة في تعزيز ثقافة التسامح والدعم
تلعب الأسرة دوراً محورياً في غرس قيم التسامح
والتفاهم لدى الأجيال الناشئة. فعندما يلاحظ الأطفال أن آباءهم يسعون لحل النزاعات
بطرق ودية ويركزون على تقديم الدعم للآخرين، يتعلمون أهمية هذه القيم في حياتهم
الخاصة. يمكن للآباء تشجيع أبنائهم على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية التطوعية،
ما يعزز لديهم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع ويعلمهم أن دعم الآخرين هو جزء من
تحقيق السلام الداخلي.
العلم والدراسات: تأثير المساعدة على الصحة
النفسية
تظهر الدراسات أن تقديم الدعم للآخرين يمكن أن
يكون له فوائد نفسية عميقة. فالذين يشاركون في مساعدة الآخرين، سواءً عبر التطوع
أو تقديم النصح، غالباً ما يشعرون بسعادة أكبر وإحساس بالرضا الشخصي. هذا النوع من
"التغذية الراجعة النفسية" يساعد في تحسين جودة الحياة ويقلل من معدلات
التوتر والاكتئاب، مما يجعل من الإنقاذ والدعم استراتيجية مفيدة على الصعيد الشخصي
أيضاً.
تعزيز ثقافة التسامح والدعم عبر البرامج
المجتمعية
يمكن للمجتمع ككل الاستفادة من مبادرات تعزيز
التسامح والدعم عبر برامج تعليمية وثقافية. على سبيل المثال، يمكن للمدارس
والمؤسسات التعليمية دمج برامج تعلم الطلاب كيفية حل النزاعات بطرق سلمية،
وتعليمهم قيمة العطاء. وبالتعاون مع المؤسسات الحكومية، يمكن إطلاق حملات وطنية
للتوعية بأهمية التسامح كقيمة إنسانية وأخلاقية تساهم في بناء مجتمع قوي ومتماسك.
فوائد الإنقاذ والدعم
1. تعزيز الثقة والاحترام: عندما نعامل
الآخرين بإيجابية ونعطيهم الفرصة للتغيير، فإننا نزرع بذور الثقة والاحترام
المتبادل.
2. خلق بيئة من التعاون: بدلاً من تعزيز
الصراع، نحن نبني بيئة تفاعلية إيجابية تحفز الجميع على التعاون وتحقيق أهداف
مشتركة.
3. الاستفادة من الطاقة الإيجابية: الطاقة التي
نحصل عليها من العفو والدعم تفوق بكثير تلك التي تأتي من الصراع والمواجهة.
ختاماُ
إن تبني ثقافة الإنقاذ والدعم ليس فقط لصالح من
نتعامل معهم، بل ينعكس علينا كأفراد ويمنحنا طاقة إيجابية تمنح حياتنا بعداً أكثر
استقراراً وسلاماً. عندما نتجنب الرد على الإساءة بالإساءة ونختار مد يد العون،
فإننا نخلق تأثيراً إيجابياً يمتد إلى الآخرين ويعزز من ترابط المجتمع. فبدلاً من
الصراع، لنكن مصدر بناء ودعم، لعلنا بذلك نساهم في عالم أفضل وأكثر إشراقاً.
Comments
Post a Comment