سبع صنايع والبخت ضايع!

سبع صنايع والبخت ضايع!

من كتاب "من أروقة المكاتب"
المؤلف: جمال بسيسو
استشاري في التنمية البشرية



موقف وحوار
لم يكد ينتهى شامل من تقديم نفسه وإعطاء نبذة عن تأهيله العلمي، وخبراته العملية، حتى ظهرت علامات الحيرة والتساؤل على وجه رشيد مدير الموارد البشرية في الشركة الذي يجري معه مقابلة التوظيف، مما جعل شامل يشعر ببعض القلق الذي لم يستمر طويلا، فقد بادره رشيد قائلا:
رشيد: العجيب يا شامل أنك حاصل على درجة البكالويوس بتقدير ممتاز وفي تخصص مطلوب جدا في سوق العمل، ومع ذلك فإنك لم تعمل في مجال تخصصك الدراسي طوال سنوات عملك الماضية! فما السبب في ذلك يا تُرى؟
شامل: سؤالك في محله يا سيدي، وأصدقك القول بأنني لم ألتحق بأي وظيفة فيما مضى إلا وكنت أجد في نفسي رغبةً عاليةً فيها ومماثلةً لرغبتي في العمل في مجال تخصصي، ولذا فقد خرجت والحمد لله بنجاحات طيبة في كل مواقع عملي السابقة..
رشيد: ولكن يا شامل حتى وظائفك السابقة لم تتشابه فيما بينها إلا قليلا! فمن مندوب مبيعات، إلى مدير مكتب، إلى رئيس قسم التسويق، مما يعني أنك لم تستطع أن تبني خبرة تراكمية فعلية في أيٍ من تلك الوظائف!
شامل: ولكن يا سيدي كان هناك قواسم مشتركة بين كل تلك الوظائف، وقد تناسبت تماما مع قدراتي وإمكاناتي، مما جعلني أبدع في كل واحدة منها، كما أنني أرى في تنوع الوظائف التي شغلتُها فيما مضى إثراءً وخبرات ثمينة ستفيد منها المؤسسة التي سأعمل فيها.
رشيد: ربما كان ذلك ذلك صحيحاً، ولكن قبل أن نواصل حديثنا أرجو منك أن تملأ هذا الطلب حتى يتسنى لنا تغطية الجوانب الأخرى من المقابلة. 
وهنا انخرط شامل في تعبئة الطلب بينما كانت الأفكار المتضاربة تصول وتجول في ذهنه حول ما ينتظره في هذه المقابلة!
والأسئلة المطروحة هي
هل عدم عمل شامل في تخصصه، وعدم وجود خبرة متراكمة لديه في وظيفة واحدة سوف يؤثر عليه سلبا، ولن يكون في صالحه في هذه المقابلة الوظيفية؟ أيضا ما هي الوظيفة المثالية لمن هم في مثل وضع شامل؟

أما رأي الاستشاري
يقول الله تعالى "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ(الإسراء - 84)،ويقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"، وفي تلك الآية الكريمة وهذا الحديث الشريف إشارات إلى طبائع ومكنونات البشر المختلفة التي تنبثق عنها اهتمامتهم وتوجهاتهم ومساعيهم وشتى أعمالهم.
والناس على أربع فئات في ميلهم إلى التخصص والتعمق الرأسي التراكمي، أو نزعتهم نحو العمومية والتمدد الأفقي السطحي. 
1- الفئة الأولى وهي فئة من يميلون إلى التخصص والتعمق الرأسي التراكمي، وهؤلاء يعشقون التفاصيل، ويتتبعون الخيوط إلى نهاياتها، ويغوصون في المسائل غوصاً للوصول إلى القول الفصل فيها، وهؤلاء يُطلق عليهم في المصطلح الفقهي "مجتهدي المسائل"، ومن الأمثلة المعاصرة لهذه الفئة أصحاب الدكتوراة في التخصصات الدقيقة على اختلافها، وهم باختصار يسعون لمعرفة كل شيء عن شيء بعينه.

2- الفئة الثانية وهي فئة من لهم نزعة نحو العمومية والتمدد الأفقي السطحي، ويمثل هذه الفئة أصحاب الاطلاع الواسع والمتنوع والخبرات المتعددة، والحائزين على كم هائل من المعلومات العامة في مختلف العلوم والفنون، وهؤلاء يتميزون بقدرتهم العالية على التفاعل مع الأوساط المتعددة والمختلفة، وهم يسعون في العادة إلى معرفة شيء عن كل شيء.
3- الفئة الثالثة وهي فئة من جمع بين التخصص والعمومية، الذين يسعون دائما لمعرفة كل شيء عن أي شيء، وهؤلاء يمثلهم العلماء الموسوعيون الذين تعددت تخصصاتهم وتنوعت، وما أكثر الأمثلة على هذه الفئة في تاريخنا الإسلامي، حيث جمع كثير من علماءنا الأوائل بين علوم الدين والدنيا من تفسير وحديث وفقه وطب ورياضيات وكيمياء ولغة وغير ذلك، ومن أمثلة هؤلاء العلماء الغزالي، وابن سينا، وابن رشد، والرازي. وأمثال هؤلاء في عصرنا الحالي قليل، وهم في أكثرهم ليسوا من هذه الأمة وللأسف!
4- الفئة الرابعة والأخيرة هي فئة البسطاء من الناس الذين ليس لهم نصيب في التخصص أو العمومية، ومن أمثلتهم العمالة غير الماهرة، والأميون، والذين لم يحصلوا على الحد الأدنى من التعليم، وكذلك الذين يعيشون في المناطق البدائية وغيرهم.
ومن واقع هذا التصنيف ينبع التحدي في ضرورة أن يعرف الواحد منا طبيعة نفسه، وإلى أي فئة ينتمي في ميوله وقدراته، وكلما كانت تلك المعرفة مبكرة ومكتملة كلما اتضحت بوصلتُنا، وكلما حفظنا أنفسنا من سلوك مسارات دراسية ومهنية خاطئة.
وعلى سبيل المثال، فإن من كانت ميوله نحو التعمق الرأسي وجب عليه أن يرتقي في التخصص، وأن يتوجه إلى الدراسات العليا، وأن يحافظ على خط وظيفي واحد تتراكم فيه الخبرات، أما من كانت نزعته نحو العمومية دون التخصص فلربما كانت الدراسات العليا بالنسبة له مضيعةً للوقت، ولربما كان لزوم نوع واحد من الوظائف بمثابة مقبرة وظيفية له! 
أما عن حالة شامل فواضح أنه من الذين لديهم نزعة للعمومية والتمدد الأفقي لا التخصص، وواضح كذلك أنه مدرك لهذه الطبيعة ويعمل وفق مقتضياتها، فبالرغم من تفوقه الجامعي، إلا أنه لم يسع إلى مزيد من التخصص المتوافر في الدرجات العليا من ماجستير ودكتوراة. 
كذلك نراه أنه عندما انتقل إلى سوق العمل لم يكن حريصا على لزوم خط وظيفي واحد، بل كان يلتحق بالوظائف التي تتناسب مع ميوله ورغباته وقدراته، وهو بذلك ليس حالة فريدة من نوعها، حيث تشير بعض الدراسات التي أجريت مؤخرا في الكويت إلى أن نسبة 30% من المنخرطين في سوق العمل لا يعملون في مجال تخصصاتهم الدراسية، وترتفع هذه النسبة بشكل أكبر بكثير في بلدان المغرب العربي، حيث البطالة المتفشية هناك هي التي تفرض على خريجي الجامعات العمل في غير مجالات تخصصاتهم، أكثر من كون ذلك نابع من رغبات أو ميول شخصية!
لقد أحسن شامل في إظهار رغبته العالية في كل الوظائف التي شغلها من قبل، وكذلك النجاحات التي حققها، كما أجاد أيما إجادة في دفاعه عن خبراته العملية المتنوعة عندما بادر إلى بيان مدى انسجام وتطابق متطلبات الوظائف التي شغلها على اختلافها، مع قدراته وإمكاناته الشخصية. 
وبالرغم من عنوان المقال "سبع صنايع والبخت ضايع" والذي يشير إلى حرج محتمل قد يعاني منه شامل في هذه المقابلة الوظيفية، إلا أن طبيعة المرحلة التي نعيش في عصرنا الحاضر والمتمثلة في الأزمة الاقتصادية الشديدة، جعلت من شامل وأمثاله كوادر بشرية مطلوبة بشدة في سوق العمل.
ويُسمى هذا النوع من الكوادر بالموظفين متعددي الوظائف “Multi-Functional Employees”، وعادةً ما يستطيع هؤلاء القيام بوظائفهم المعتادة، بالإضافة إلى وظائف زملاءهم المختلفة، مع تميزهم بالإنتاجية العالية، التي تتيح لمؤسساتهم الاستغناء عن المزيد من الموظفين، وخفض النفقات. 
ومن هنا فإن عدم عمل شامل في مجال تخصصه، وعدم وجود خبرة متراكمة لديه في خط وظيفي واحد ليس بالضرورة أن ينعكس سلباً عليه، أو أن يؤدي إلى عدم القبول به كمرشح مناسب لهذه الوظيفة. 
ومسك الختام
فإن الوظيفة المثالية لأيٍ كان وبغض النظر عن الفئة التي ينتمي إليها، هي تلك الوظيفة التي تتوافر فيها خمسة شروط أساسية وهي:
1- أن تلبي رغبات الموظف وتتفق مع ميوله.
2- أن تنسجم مع قدرات وإمكانات الموظف.
3- أن تقع ضمن نطاق مؤهلات الموظف العلمية.
4- أن تتوافق مع خبرة الموظف العملية.
5- أن تكون ذات مردود معنوي ومادي مرتفع.

Post a Comment

Previous Post Next Post