الهوية الوطنية وحديث من القلب

قال لي أحدهم غير مرة معاتباً؛ إنكم أهل الكلام تتحدثون كثيراً عن أهمية الهوية الوطنية وكيفية الحفاظ عليها، وانها روح حياتنا، بل حياة أرواحنا ومركز نهضة دولتنا، دون أن تقولوا لنا كيفية الحفاظ على الهوية؟ وما السبيل إلى تعزيزها؟ ونحن نرى فلذات أكبادنا يتفلتون منها دون أن يشعروا، تحت وقع عالم شديد الإغراء، بما يقدمه لهم من نماذج تستهويهم وتتسلل إليهم كما تتسلق النملة الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فأنى لنا أن نلاحظها أو نمنعها!
قلت: يا صاحبي، كما أن لكل بناء متين أركاناً يستند إليها تعززه وتحفظ له بقاءه، والإخلال بأي ركن منه يعرض البناء كله للسقوط والانهيار مهما كانت قوة الأركان الباقية، فالركن هو الحصن الذي نلوذ إليه ونأمن جانبه.

وكما أن للدين أركاناً وثوابت لا يكتمل إيمان من ينال من أحدها، كذلك فإن الأمم التي تريد أن تحفظ لوجودها البقاء ولبقائها التميز، وكذلك تربية الشخصية الوطنية لها أركان، من أهمها وأولها الهوية الوطنية، التي إذا ما تم توليها بالرعاية صارت هناك حالة تصالح مع النفس واتساق مع الذات، حين يشعر المواطن أن الهواء الذي يتنفسه يحمل نكهة موطنه، وليس ذلك من باب العاطفة ولكنه حق. فللأوطان نسيم يميزها عن غيرها، وحبل سري يربط أصحابها بها مهما باعدت بينهما الأيام، وبانقطاعه تنعدم حياة صاحبه وإن بقي بين الأحياء.
والحديث عن الهوية الوطنية حديث قديم، صال فيه وجال كل المخلصين لهذا الوطن، يتجدد عندما يستشعر أبناء الوطن الواحد خطورة الانصهار في الثقافات الأخرى. من هنا فمن الأهمية بمكان ولمصلحة الأمة، في زمن صار فيه الكل في واحد من حيث طريقة الملبس ونوعية المأكل، التي تود أن تحتفظ لنفسها بمكان تحت الشمس، أن تغرس الهوية الوطنية وتعظمها في نفوس أبنائها، دون عنصرية أو "شيفونية"، لتكون عنواناً عريضاً نحتمي به، ومظلة كبيرة تضمناً، دون كافة أشكال وحملات المسخ والتشويه التي تجعل هناك ضبابية عند الإجابة على سؤال محوري.. من نحن؟ عندئذ نستطيع أن نحدد معالم الطريق الذي يجب أن نسلكه، والطموح الواجب الوصول إليه.
وتعزيز الهوية لا يفرض وحسب بقرارات فوقية، بل لا بد من تأصيل ثقافي وفكري ينبع من داخلنا، وأن ننتصر على الهجوم الضاري من التيارات المحيطة بمجتمعاتنا العربية، في ظل العولمة وتحدياتها. هنا، من الأهمية بمكان تعظيم دور الأسرة في غرس قيم نابعة من عمق أرض هذا الوطن في عقول أطفالنا، وألا نتركهم يعيشون كالأيتام ونحن أحياء نرزق، ليولدوا ويكبروا بعيداً عن أحضاننا، بل ربما يكون ارتباطهم بغيرنا أكبر من ارتباطهم بنا. كيف يستقيم إذاً مفهوم الهوية وهم غرباء في بيوتهم؟!
تعزيز الهوية لا بد أن يلتقي فيه ما هو محلي مع ما هو اتحادي، وأن تقوم المؤسسات الخاصة والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع، بتعضيد ومؤازرة جهود المؤسسات الحكومية؛ وفاء لحق المجتمع وتراب الوطن. تعزيز الهوية يأتي من برامج تعليمية، تُعنى بجعل قيم المجتمع ولغته وتاريخه وتراثه هي الإطار العام الذي ندور حوله، في كل المفردات التي يتم تلقينها لأبنائنا، بلغتنا الجميلة الغنية الكافية الوافية، القادرة على مسايرة العصر بكل تطوراته واستيعاب مخرجاته. فاللغة هي أول رافعة من روافع الحفاظ على الهوية، مع تشجيع أبنائنا على الإلمام بلغات أخرى، كوسيلة للتعلم والاطلاع على مصادر المعرفة بصورها المختلفة.
فالتعليم باللغة العربية لا يعني أننا فقط نعلم أبناءنا بلغتهم، ولكن يعني أنهم يتعلمون بطريقة أفضل. فاللغة ليست فقط أداة لتوصيل المعلومة، ولكنها أداة الفكر والإبداع والتعبير الأصيل عن التصاق الفرد بذاته، وهي الحاضن الحضاري الذي دونه لا يمكن للمجتمعات أن تتقدم أو أن تسهم في رصيد الحضارة الإنسانية، فضلاً عن وجوب اعتبارها أداة رئيسة للمخاطبة والمراسلة في كل المؤسسات. ويستوقفني أحياناً الحديث باللغات الأجنبية في بعض الاجتماعات، على الرغم من عدم حضور شخص واحد أجنبي، وكأننا مصابون بعقدة نقص مزمنة أو داء العشى اللغوي، وأن لغتنا تهون علينا إلى أبعد حد!
تعزيز الهوية يأتي من إعلام لا يسعى وحسب إلى البحث عن رغبات الجماهير وإشباعها، بل كذلك معرفة ما تحتاجه وتقديمه. إعلام يُرفه ويُعلم ويُوجه ويُرشد ويُثقف ويُنمي الذوق.. إعلام يُعبر بأصالة عن واقع المجتمع وثقافته، دون السعي للتقليد الأعمى أو المسخ والتشويه.. إعلام يعبر عن ثقافتنا وقضايانا، بعيوننا لا بعيون غيرنا.. إعلام يلتف حوله أبناء جلدتنا، دون أن نجهدهم بالبحث عن غيرنا ونتركهم كالأيتام على موائد اللئام. أو ليست سباقات الهجن والقدرة أفضل ألف مرة من مصارعة الثيران؟ كما أن "كارتون الفريج" الذي ترجم إلى العديد من اللغات الأجنبية، أقرب إلى قلوب أبنائنا وإلينا من مشاهدة العنف غير المبرر في أفلام "توم وجيري" و"بوكيمون".
تعزيز الهوية يتحقق عندما لا نكتفي بكونها مجرد مقال في ركن في جريدة، أو برنامج يقدم في المناسبات الوطنية، ثم نعود أدراجنا بعد فترة وجيزة منتظرين مناسبة أخرى توقظ فينا الشعور بأهميتها، بل لا بد أن تكون ممارستنا الإعلامية - بدءاً من برامج المسابقات، وليس انتهاءً بالأعمال الدرامية التي تعتبر الذاكرة المرئية للشعوب - معبرة بما لا يدع مجالًا للتراخي عن هويتنا الوطنية، ومنطلقاً أساساً في تقديم كل الأشكال البرامجية.
وهنا يأتي دور المبدعين في تقديمها في قالب جذاب وممتع، مهما كانت بساطته. وأتذكر التنويهات التي كانت تقدم عبر أحد الإعلانات في تلفزيون دبي، عن معنى كلمة من التراث قد تخفى عن الأجيال الجديدة. وربما يدور حديث بين أفراد الأسرة، تفوح منه رائحة الوطن عند مشاهدتها على الشاشة. تعزيز الهوية يتحقق لأننا نؤمن أننا شعب واحد، نعتز بدولتنا التي لها امتداد عربي يحيط بنا، ونرتبط به في اللغة والدين والعادات والثقافة، لذا فإن الهوية تعني الخصوصية، والخصوصية تعني أن محليتنا هي التي تميزنا.
تعزيز الهوية الوطنية يأتي عندما نتقن ما نقوم به من أعمال في سبيل رفعة الوطن وتقدمه، ومن خلال تحويل حب الوطن من كلمات نرددها إلى واقع نعيشه. تعزيز الهوية يكون عندما يشعر كل مواطن بأهمية دوره في مسيرة البناء. وتتعزز الهوية عندما يخرج كل منا من عباءته الفكرية والمذهبية، يحتمي بحمى الوطن، بعيداً عن العصبيات المذهبية أو العرقية والمصالح الخاصة كذلك. تتعزز الهوية عندما يشعر كل فرد أنه جزء من حبات رماله.. عندئذ ستكون الهوية الوطنية العنوان الأبرز والأسبق لكل العناوين.
المصدر

https://www.albayan.ae/opinions/articles/2011-11-29-1.1545719

Comments