تفاقم ظاهرة الفاقد التعليمي وجهود الإمارات في كبح جماح هذه الأزمة


لا شك أن العملية التعليمية تمُر بالعديد من السَّقَطات وتواجه عقبات وعراقيل عِدّة بين الفينة والأخرى تلويها عن وجهتها وغايتها الأساسية، ومن ضمن هذه العقبات بل وأبرزها هو ما يسمى -أكاديميًا وتربويًا- بـ«فاقد التعلم»، ويعتبر هذا الفاقد أو الهدر المدرسي إشكالية أزلية موجودة في كل دول العالم على اختلاف نموها وتقدمها، إذ أن هذا الفاقد وإن تعددت أسبابه لكنه يتعلق بشكل أو بآخر بالعقل البشري الذي يتشابه على مستوى العالم، وكما ينجح هذا العقل في رصد واستيعاب معلومات فإنه كذا يفشل ويتهاون في الإلمام بأخرى.

ورغم أن خبراء التربية وضعوا الكثير من الحلول والمعايير التي تُحَجِّم من هذا الفاقد، إلا أن الظروف التي يحياها العالم حاليًا من ضغوط وأزمات متعددة سياسيًا واقتصاديًا وعلى مستوى المجتمع والأسرة والفرد؛ كل هذا ساهم في تفاقُم هذه الإشكالية وخاصةً لدى الدول التي تعيش وتعاني ويلات الحروب والصراعات أو حتى تلكم التي تنتشر بها جائحة كورونا بشكل فاق حَدَّ تحَكُّمات البشر، وفيما يلي نلقي الضوء أكثر على هذه الأزمة من كافة جوانبها وكيفية تجاوُزِها وفق خبراء التربية.

مفهوم الفاقد التعليمي

هناك العديد من التفاسير والمفاهيم التي استعرضها خبراء التربية لوصف وتعريف مفهوم «الفاقد التعليمي» أو التربوي، وهو بشكل أو بآخر لا يخرج عن إطار كونه هدر وخسارة في انتقال المعلومة والمعرفة والمهارات المدرسية المختلفة من المدرس أو الكتاب المدرسي إلى التلميذ.

ويعرفه البعض بالفجوة التي تصيب العملية التعليمية لتَحُول دون وصول الرسالة العلمية كاملة للطالب، ما يتسبب في الأخير بإهدار الموارد البشرية والمادية على التعليم دون تحقيق النتيجة والعائد المرجو منه، وبذلك يصبح الطلاب منتمين للكيان للمدرسة أو الجامعة بالاسم فقط دون أي ناتج على أرض الواقع، ولعل أسباب هذا الأمر وتبعاته تتفاوت من شخص لآخر لكنها وبلا أدنى شك تصيب وعي وثقافة البلاد في مقتل.

أسباب الفاقد التعليمي

وبالتطرق للحديث حول أسباب الفاقد التعليمي وبوادر ظهوره وتفَحُّله في أية منظومة أكاديمية، نجد أنها تتنوع ما بين خلل في المناهج وطرق التدريس ذاتها وبين استهتار وتخاذل من التلاميذ والطلاب وكذا أسباب تتعلق مباشرة بالأسرة والمجتمع، وفي المُجمل نجد أن الفقر وتفَشِّي البطالة وسوء الظروف المادية وارتفاع تكاليف ومصاريف الدراسة ومستلزماتها يضر بمدى اهتمام الطالب وأولياء الأمور بالعملية التعليمية، كما ويعتبر التفكك الأُسَري وانخفاض الوعي بأهمية التعليم وقلة حث الأبناء على تحصيل معارف جديدة من أبرز مسببات الفاقد التعليمي، وكذا الاضطرابات الاجتماعية وعدم تأهيل أولياء الأمور للمتابعة الدورية مع أبناءهم ليكونوا حلقة وصل بين المدرسة والطفل أحد أسباب هذه الظاهرة.

ولا ننسى هنا الجانب الصحي للتلميذ؛ إذ أن صعوبات التعلم وضعف التغذية وغيرها من اضطرابات صحية تحول دون تلقي المعلومة على الوجه الأمثل وأولئك الذين يعانون من احتياجات صحية خاصة تستدعي تعاملات استثنائية، وأخيرًا وليس آخرًا نجد أن المؤسسة المدرسية تتحمل مسؤولية كبيرة في هذا الأمر نتيجة عدم مراعاتها في صياغة المناهج للفروق الفردية بين الطلاب، بل وأحيانًا ضعف مستوى وخبرات المدرسين أنفسهم ونقص كفاءاتهم التربوية والتعليمية مع ارتفاع كثافة الفصول وغيرها من سقطات مؤسسية كلها تؤدي بالنهاية إلى انتشار «الفاقد التعليمي» أكثر فأكثر.

أضرار الفاقد التعليمي

أما عن أضرار هذا الفاقد فحدث ولا حرج؛ إذ أن تبعاته تنعكس بشكل كبير على كل من الفرد والأسرة والمجتمع، ولعل أبرز تلك الأضرار هو انخفاض الوعي والثقافة والتفتح الفكري وضعف قدرة الشخص على تكوين تحليل لائق حول الأحداث المحيطة، علاوةً على تدَنِّي نسب التحصيل وتكرار الرسوب والبلادة المعرفية، كما ويعد من أضرار «الفاقد التعليمي» عزوف التلاميذ عن المدرسة وارتفاع نسبة التسَرُّب وما يتبعه من اتجاه الطلاب للشارع وأصدقاء السوء بعيدًا عن رقابة الأسرة والمدرسة وبالتالي زيادة الجرائم المجتمعية وتعاطي المخدرات، وأخيرًا يعود ذلك على الدولة بأزمات عديدة أبرزها إهدار الموارد وميزانيات التعليم بلا أي عائد، وقلة الخبرات المطلوبة لإدارة شؤون البلاد في الأجيال اللاحقة وما يتبعه من تقلُّص خطط التطور الحكومي في المستقبل كنتيجة مباشرة لضعف الكفاءات الفنية والتخصصات المطلوبة من المواطنين.

جهود الدولة في معالجة أزمة الفاقد التعليمي

وكانت حكومة الإمارات العربية المتحدة قد وضعت خططًا واستراتيجيات عِدّة للقضاء على «الفاقد التعليمي» أو على الأقل رصد مؤشراته وتحجيم تبعاته من المنبع لتخفيف حدة تأثيراته، وشكّلت في سبيل ذلك مبادرة أسمتها بـ«المعلم الخبير» والتي تتكون من 12 عضوًا متنوعي المناصب ما بين مديري مدارس ورؤساء وحدات ومعلمين…إلخ؛ في محاولة جادة لرأب الصدع وسد الفجوة والهدر التعليمي الناتج عن جائحة «كورونا» وما تبعها من تحوّل متكامل إلى منظومة «التعلم عن بُعد» والذي نتج عنه فاقد كبير في المعطيات والرسائل التي تصل لأذهان الطلاب.

وتبَنَّت هذه المبادرة تقديم خدمات متخصصة للطلبة والدارسين، وكان أولها خدمة «أكاديمية تحصيل» المنوطة برفع مستوى تحصيل الطلاب في جميع المواد الدراسية، وثانيها خدمة «أولمبياد التحدي» والخاصة بعقد مسابقات دورية بين الطلاب مع توفير جو هادئ للنقاش والتعبير المباشر بين الطلبة والمعلمين، كما وفي السياق ذاته وضعت الدولة 13 معيارًا رئيسيًا لتنفيذ المبادرة، وعلى رأسها تحليل نتائج الطلاب والدارسين وتقسيمهم إلى مجموعات حسب مدى استيعابهم وإلمامهم بالمناهج، وكذا قياس مدى رضا أولياء الأمور عن مستويات أبناءهم.

وفي نفس الصدد، اهتمت الحكومة الإماراتية بتطوير كفاءة المعلمين وإعادة هيكلة المناهج وتطوير برامج التعلم الذكية وتسهيل التقنيات المطروحة للطلاب، ووضعت في سبيل ذلك سلسلة من الطموحات والغايات ربطتها بتوقيت محدد لا يتخطى خمس سنوات حتى تنتهي منها المؤسسة المختصة ومن ثم تقيس نتائج هذه الخطط على أرض الواقع، آخذةً في الاعتبار أوضاع ذوي الاحتياجات الخاصة ومتطلباتهم الصحية والعقلية والمادية، ولا شك كل هذا يسهم في إعادة تعزيز رغبة التلاميذ في التعلم وصقل مهاراتهم المعرفية والإدراكية وتمكينهم في مختلف المراحل التعلم.

ميزانية التعليم في دولة الإمارات

ولما كانت أبرز مسببات «الفاقد التعليمي» تكمن في مدى توافُر الموارد والآليات المادية وتحميل الأُسَر بالتكاليف فوق طاقاتهم، فقد أقَرَّت الحكومة الإماراتية ميزانية تفي بحاجة مؤسسة التعليم وتقلل من الاعتماد على الطلاب والدارسين في توفير متطلبات ووسائل التعليم، فقد خصصت في سبيل ذلك قرابة الـ11 مليار درهم لقطاع التعليم وحده، وهو المبلغ الذي يقترب من ربع ميزانية الدولة كاملةً، وتم توجيه هذه المبالغ لدعم البرامج التعليمية والأنشطة الرياضية، وتطبيق نظام البكالوريا الدولية في المرحلة المتوسطة، علاوةً على تنفيذ الاختبارات الدولية لرصد وتصنيف ومتابعة أداء الطلاب في التعليم الحكومي والخاص على السواء.

كما وجَّهَت الميزانية للبحث العلمي وتطوير المواهب والمهارات ودعم الهوايات الثقافية المختلفة في محاولة لإثارة شغف التلاميذ نحو التعَلُّم، وفي سبيل تحقيق ذلك أسندت الدولة مهام ومسؤوليات لتطوير بالتعليم إلى أربع مجموعات رئيسية، وهي «الإشراف والمتابعة»، و«الصحة والسلامة»، و«أنشطة التعليم والتعلم»، و«أنشطة جودة الحياة»، لتقوم كل منها بمهام جادة تتفاوت ما بين اعتماد الخطة التشغيلية للمدارس والتنسيق في توزيع كفاءات المدرسين بين مختلف الإمارات والمناطق.

وكذلك اعتماد منظومة صحية آمنة لعودة التلاميذ في ظل الجائحة وتقديم التوجيه والدعم المستمر لهم، فيما تضمنت «أنشطة التعليم والتعلم» مسؤولية متابعة المستوى التحصيلي وتقييم جودة أنشطة التعليم وتنفيذ خطة الفاقد التعليمي وأخيرًا تكليف مجموعة «أنشطة جودة الحياة» بعمل إحصاءات انتظام الطلبة والمدرسين وحصر الاحتياجات الاجتماعية والنفسية لكليهما، جنبًا إلى جنب مع تنظيم المسابقات والتواصل أولًا بأول مع أولياء أمور الطلبة.

فيديو مقال تفاقم ظاهرة الفاقد التعليمي وجهود الإمارات في كبح جماح هذه الأزمة

 


Comments